* الإنسانُ كيان محدودٌ متناهٍ في ذاته إذا قيّمناه بقدراته الجسدية والنفسية ، وطاقاته على التحمل ، والنفاذ في الأرض والسماء ...
وقد وصف الله - سبحانه هذه المحدودية في كتابه الكريم ، وأطلعنا على تفاصيل العجز الإنساني .
** أكّد - سبحانه - أنّ الإنسان محدودٌ في :
- سمعه ...
- بصره ...
- علمه وإدراكه ..
- طاقاته عامة ...
- قدرته على تعبيد الأرض وتسخيرها لمعيشته ، وتحمّلها .
- قدرته على احتمال الحياة ، واحتمال نفسه ، ومواجهة
الابتلاء ... !
محدودية الحواس :
يثبتُ اللهُ في كتابه محدودية بصر الإنسان ، ومن ثم عجزه عن رؤية كل ماقد خلق الله في الوجود ... يقول تعالى - في سورة الحاقّة - :
" فلا أقسمُ بما تُبصرونَ 38 ) وما لا تبصرون 39 ) إنّه لقولُ رسولٍ كريمٍ 40 )
معنى هذا أنّنا نمتلك الأعينَ ولكن لانمتلك مطلق الإبصار ؛ فهناك من آفاق الأرض والسماء ما لا نراه ، وما لانحيط به .
وهذا الذي لا نراه جليلٌ ... عظيم ؛ فاللهُ يقسم به ، ويستدلُ به على قدرته .
** كذلك أسماعُنا : لا تحيط بكل صوت ، ولا تسمع كل شئٍ ، فنحنُ لا نسمع صوت أعماق الأرض وحركة صخورها ومعادنها وأعماقها ... ، ونحن لا نسمع دبيب الكائنات الدقيقة التي تدبُّ عليها ، ولا تلتقط ُ آذانُنا صوت تمدّد الأرض أو انكماشها ، ولا تلتقط صوت حركات الجبال ومرورها ...
كما أن أسماعنا لا تلتقط ما يدور من حركة وصوتٍ في عالم السماء وأجوازها ؛ فنحن نحسبُ الأرض هامدة ، ونحسب السماء هامدة أيضا ، ونظن السحاب كما نراه : صامتا بينما يمور بالحركة والصخب والضجيج والحياة .
كذلك الكواكب والنجوم والأجرام السماوية والنيازك ، والشمس والقمر ، بل ... كذلك الحياةُ ما بين الأرض والسماء :
حركة الهواء والرياح ، والطيور البعيدة النائية ، وبخار الماء المتصاعد من البحار والمحيطات ، وصوت الماء النازل من السماء ، و...
إنها منظومة ... منظومة من الوجود الدائر المُدار بحكمة الله وتدبيره ، وإنها عوالم رحبةٌ واسعة متنوعة من خلق الله : منها ما يدب على الأرض ، ومنها ما يطير بجناحيه ... منها ما يسعى على أربع ، ومنها ما يسعى على ثلاث ، أو على اثنتين ، ومنها ما يزحف على بطنه ...
من مخلوقات الله ما ينام على ظهره أو جنبه ، أو بطنه كالإنسان ، ومنها ما ينام واقفا كالحصان ، وما ينام مقلوبا كالخفاش ، وما يفتح بعض عينيه كالثعلب ... !
هذه العوالم والكائنات الرحبة لها حركاتها وأصواتها ولغاتها ، ولها - مثلما أثبت تعالى في كتابه - تسبيحها وعبادتها الدائمة المنتظمة ، ولكنّا ... نحنُ لا نسمع كثيرا من هذه الأصوات ، مثل : أصوات الملائكة ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، وسائر الكائنات الدقيقة على الأرض ، أو في السماء !
كما أنّنا نسمع بعض هذه الأصوات دون أن نفقه ما تقول .
يقول تعالى :
" وإنْ منْ شئٍ إلاَّ يسبحُ بحمدهِ ولكنْ لا تفقهونَ تسبيحَهم "
سورة الإسراء / الآية 44
*** وقد توصَّل كثيرٌ من العلماء إلى عجز التكوين الإنساني عن تحمّل سماع الأصوات الكونية الموجودة في باطن الأرض أو في عالم السماء ، أي أنّ الإنسان لم يخلق مجهّزا بالقدرة على سماع الأصوات التي حُجبت عنه ، والتي حجبها اللهُ عنه رحمة منه وإشفاقا على الإنسان من صخب الكون وضجيجه . فضلا عن حكمة أخرى تتراءى لنا في هذا الأمر ، هي :
أنّ الله سبحانه لم يرد أن يشغل الإنسان عن عبادته ، وعن إعمار الحياة بمثل هذا الصخب ، وبمثل هذه العوالم التي لن يفيده سماع أصواتها دون فهم لغاتها ، ولن يمكّنه فهم لغاتها من التفرغ للغاية التي خُلق من أجلها ، وهي العبادة .
ومن هنا كان تكوين الإنسان معدّا بكيفية لا يستطيع معها سماع أصوات كثير من هذه العوالم الكونية . ويثبتُ العلماء أن الإنسان لو تهيأ له - على سبيل الافتراض - أن يسمع الأصوات الدقيقة في الأرض ، أو في السماء - مما حجبه الله عنه - لانفجر جسده بتأثير هذه الأصوات ، وقوة ذبذباتها التي لا يحتملها تكوين الإنسان !
* نحن لا نرى ماوراء الواع المحسوس المعيش ، لا نرى لطائف الوجود ، ولا نرى حركة الأرواح في غدوها ورواحها ، لا نرى سعي الروح إلى خالقها ، وعودتها إلى حظيرتها الآمنة ، لا نرى مدى تمكن الذات الإلهية من مخلوقاتها . يقول تعالى وهو يصف حركة روح المائت ، ومدى قرب الله منه - ونحن في عمائنا - :
" ونحنُ أقربُ إليه منكم ولكن لا تُبصِرُون " الواقعة / الآية 85
** أبصارنا لا تحيط بما خلق الله ؛ ودليل ذلك أن الله يثبت في كتابه الكريم أنه قد خلق السماء بغير عمدٍ نراها . يقول تعالى :
" اللهُ الذي رفعَ السماواتِ بغيرِ عمدٍ تروْنَها " الرعد/ الآية 2
** من هنا ينبّهنا الله إلى كونه - وحده - السميع البصير ، وإلى كونه - وحده منْ يملك السمع ويملك البصر . يقول تعالى :
" أمَّنْ يملكُ السمع والأبصارَ ومنْ يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ "
سورة ق / الآية 22
إذن امتلاك السمع والأبصار خاصية إلهية وقدرة إلهية خاصة لله وحده ، تتبعها صفات الألوهية الأخرى والتي لا تكون إلا لله ، مثل : القدرة على إخراج الحي من الميت - كما ذكرت الآية السابقة .
** معنى هذا أن محدودية حواسنا خاصية بشرية وإنسانية حتمية ، مقدرة علينا ، مخصوصة بنا ، من خصائص جبلتنا ، فنحن المخلوق والذي لا بد أن يكون ناقصا ، متناهيا .
** إنّ ضعف الجبلة البشرية كامنة في طبيعة خلق
الإنسان ذاته ، ففي خلقته الوهن والضعف .
يقول تعالى :
" فلْينظُرُ الإنسانُ ممَّا خُلِق 5 ) خُلِقَ منْ ماءٍ
دافقٍ 6) يخرجُ من بينِ الصُّلبِ والتّرائبِ 7 )
إنّهُ على رجعهِ لقادرٌ 8 ) يومَ تُبْلى السّرائرُ 9)
فمالهُ منْ قوةٍ ولا ناصرٍ 10 " سورة الطارق .
ويقول تعالى : في سورة عبس :
" قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَره 17 ) منْ أيِّ شئٍ خلَقِه 18 ) منْ نُطفةٍ خلَقهُ فقدّره 19 "
الحمق الإنساني :
الإنسان ليس كائنا ضعيفا محدودا فقط ، بل كائنٌ يسكنه الحمقُ ويلاصقُ روحه ؛ فهو لا يدرك ضعفه ، ولا ينتبه إلى محدوديته ؛ كما أنّه لا يكف عن السؤال والجدال والتحامق المثير للسخرية والشفقة ؛ فهو - فضلا عن ضعفه - يظنّ أن خالقه لا يحيطُ به ... لا يراه ... لا يسمعه ... لا يحيط بأمره ... ، لا يرصد حركاته وسكناته ، لا يتربص به ... ، وكأنه مخلوق عبثا ، ومخلوق بغير هدف ولغير غاية ! يقول تعالى واصفا هذه الغفلة الإنسانية الحمقاء - أو - هذا الحمق الغافل المتغافل :
" أيحسبُ أنْ لن يقدرَ عليه أحدٌ 5 ) يقولُ أهلكتُ مالاً لُبَدا 6 ) أيحسبُ أنْ لم يرَهُ أحدٌ 7 ) ألمْ نجعلْ لهُ عينين 8 ) ولساناً وشفتين9 ) وهديناهُ النّجدين 10 )
إنّ الله - سبحانه - يذكرنا بقدرته من خلال تنبيهنا إلى كيفية خلقه لنا ؛ فهو الذي خلق لنا العينين واللسان والشفتين و.... و..... فكيف يعجز - سبحانه - عن رؤيتنا وسمعنا ومحاسبتنا ، وهو الذي خلق هذه القدرات والحواس فينا ؟
** ينبهنا الله - على مدار كتابه الكريم - من هذه الغفلة وهذا الحمق ، بأن يصف لنا - عبر طرح قرآني متنوع ، متعدد المواضع - طبيعة خلقتنا وجبلتنا ، ومدى هوان صنعها على الله ، وعدم استعصائها عليه ، يصف سبحانه مراحل خلقه لنا لننتبه إلى ضعف الجبلة ، وعظمة الخالق ، وعدم إمكانية الخروج عنه أو الخروج منه ... يقول تعالى :
" أيحسبُ الإنسانُ أنْ يترك سُدى 36 ) ألم يكُ نطفةً من منيٍ يُمْنى 37 ) ثمّ كان علقةً فخلق فسوّى 38 ) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى 39 )
كيف هو حال الإنسان وشعوره وهو يتأمل ذاته التباهية الفخورة المستعلية على خالقها - كيف هو حاله - حين يخبره الله أن هذه الذات المتكبرة أصلها من نطفة ثم علقة ثم كائن يتطاول ويتكبر ، ويجادل ، ويقترف المعصية بقلب هادئ خال من الرهبة من يد الخالق الذي سوّاه بهذه الكيفية في هذه المراحل والأطوار ؟
** وفي مواضع شتى من الكتاب الكريم يلفت الله
انتباهنا إلى أنّنا أهون عليه في الخلق من بعض
المخلوقات الأخرى مثل السماء ، فنحن غير
معجزي الله في خلقه لنا ! يقول سبحانه :
" أأنتُم أشدُّ خلقاً أم السماءُ بناها 27 ) رفعَ
سمكَها فسوّاها 28 ) وأغطشَ ليلها وأخرج
ضُحاها 29 ) سورة النازعات
كما ينبّه الإنسان بأنّه - أبدا لن يستطيع أن يخرق الأرض ، أو أن يكون في قامة الجبال . يقول سبحانه :
" إنك لن تخرقَ الأرضَ ولنْ تبلغَ الجبالَ طُولا " الإسراء / 37
** يرتكز الخطاب القرآني في كثير من المواضع على أسلوب الترهيب لتذكير الإنسان بضعفه ، وتننبيهه من هذه الغفلة ، و- من ثم - تنشيط شعوره بجلال الله وقوة بطشه ، وجبروته ، وقدرته على هذا ال... إنسان المخلوق من : ط ي ن ، أو من :
ف خ ا ر ... ! أي مصخلوق من جبلة هشة سهلة الكسر والحرق والتحطيم ، جبلة : لينة تُعصر ، ويابسة تُكسر ...
يقول تعالى في معرض الترهيب والتخويف من عظمته ، مخاطبا هذا الطين المتكبر ، هذا الضعف المتحامق ، هذه الهشاشة المتطاولة المختالة الفخورة - يقول :
" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشُوا في مناكِبِها وكُلُوا منْ رزقِه وإليه النشورُ 15 ) أأمِنتُم منْ في السماءِ أنْ يخسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ 16 ) أم أَمِنتُم منْ في السماءِ أنْ يرسلَ عليكم حاصباً فستعلمُون كيفَ نذيرٌ 17 ) ... سورة المُلك
كما يقول - في السورة ذاتها "
" قلْ أرأيتُم إنْ أصبحَ ماؤُكم غوْرا فمنْ يأتيكُم بماءٍ معين " الآية 30
جحود الهشاشة الإنسانية :
كثيرةٌ هي المواضع القرآنية التي تصف جحود الإنسان ونكرانه فضل الله عليه ورعايته له وإنعامه ... كثيرة هي هذه الآيات التي تصف طغيانه وكفره ، وتطاوله الأحمق غير المبرر ، وغير المفهوم ، وغير المقبول ...
كثيرة هي هذه المواضع التي تصف الإنسان وهو يتصدى بكيانه الجسدي والنفسي والعقلي الهش - يتصدى للخالق بالإنكار ، أو يتصدى بالكفر ، وتكذيب البعث ، والنشور ، وإنكار مطلق القدرة الإلهية ...! رغم أن الإسنان لا يحتاج في إثبات كل هذا إلا إلى نظرة إلى كيانه الهش الضعيف الدقيق في صنعه والدال على وجود خالق عظيم - في الوقت ذاته ، فقد خلقه الله في أحسن تقويم ، وخلقه بميزان حساس دقيق بارع ؛ فلو كان الله خلق الإنسان أضعف ممّا هو عليه ، لكان الإنسان عاجزا عن العبادة وإعمار الأرض ... ! ولو كان خلقه أقوى مما هو عليه لأصبح الإنسان أكثر طغيانا وكفرا وإفسادا في الأرض ...! فسبحان الله ... سبحان الله الذي خلق كلّ شئٍ بقدر وحساب ، وخلق كل شئٍ بمعيار التوسط والاعتدال .. وجعل لكل شئ مقدارا لا يزيد عليه ولا ينقص ... ومع ذلك يتطاول الإنسان وينكر هذا الإعجاز !
من المواضع القرآنية التي تؤثّر في عقلي ونفسي وروحي تأثيرا شديدا وهي تصف المفارقة بين ضعف الجبلة الإنسانية وبين قوة الجحود والنكران والإنكار والحمق الإنساني - من هذه المواضع - قوله تعالى في سورة "يس " :
"أوَ لمْ يرَ الإنسانُ أنّا خلقناهُ منْ نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبينٌ 77) وضربَ لنا مثلاً ونسيَ خلقَهُ قالَ منْ يُحيي العظامَ وهي رميمٌ 78 ) قُلْ يُحييها الذي أنْشَأَها أوّلَ مرّةٍ وهو بكِّ خلقٍ عليم 79 ) الذي جعل لكم من الشجرِ الأخضر ناراً فإذا أنتُم منهُ تُوقِدون 80 ) أو ليسَ الذي خلَقَ السماواتِ والأرضَ بقادرٍ على أنْ يخلقَ مثلهم بلى وهو الخلاّقُ العليم 81 ) إنّما أمرُه إذا أراد شيئاً أنْ يقولَ له كُنْ فيكون82 ) فسبحان الذي بيدِه ملكوتُ كلِّ شئٍ وإليه تُرجَعُون " 83 )
هل تنظر معي وتتأمل في هذه المفارقات التي جمعها الله في آية واحدة :
نطفة / خصيم مبين
ضرب لنا مثلا / ونسي خلقه
يحييها / الذي أنشأها
الشجر الأخضر / نارا
إن الله - سبحانه يوضح في هذه المفارقات والثنائيات مدى عماء الإنسان وجهله وجحوده ، فهو مخلوق من نطفة وهو لخالقه خصيمٌ مبين ! ... وهو ينكر قدرة الله على بعثه من الموت وينسى قدرة الله على خلقه من عدم !... يتساءل عن إمكانية إحيائه ويتجاهل كيفية خلقه ! ... يتعامى عن الخالق الذي جعل له الحياة والموت متجاورين في أشياء كثيرة ؛ فقد خلق له الشجر الأخضر حياة ونماء وإثمارا وظلالا ، وجعل من هذا الشجر ذاته حطبا ونارا للتدفئة وللإماتة أيضا ... وللعذاب ، وإنضاج الطعام ، و... وهكذا خلق له الأضداد متجاورة !
يتعامى الإنسان عن خلق الله للسماء والأرض وهما أعظم منه وأشد دلالة على قدرة الله ... !
*** إن الإنسان كيان محدود هش ضعيف ، لكنه قابل للعملقة والقوة اللامحدودة إذا ارتكز على
الإيمان بالله ، وإذا دعّم ضعفه بقوة الله ... هنا ...
وهنا فقط يكون الإنسان لا محدودا ولا متناهيا ...
يقول تعالى - سورة الرحمن - :
" يامعشر الجنّ والإنسِ إنْ استطعْتُم أنْ تنفُذوا من
أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفذوا لا تنفذون إلا
بسلطانٍ " الآية 33
هل
أدركنا
سر
هذا
السلطان ؟
وهل
أدركنا
مدى رحمة الله
في أن
جعلنا
محدودي الـــ
قدرة بدونه ؟
بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح
وقد وصف الله - سبحانه هذه المحدودية في كتابه الكريم ، وأطلعنا على تفاصيل العجز الإنساني .
** أكّد - سبحانه - أنّ الإنسان محدودٌ في :
- سمعه ...
- بصره ...
- علمه وإدراكه ..
- طاقاته عامة ...
- قدرته على تعبيد الأرض وتسخيرها لمعيشته ، وتحمّلها .
- قدرته على احتمال الحياة ، واحتمال نفسه ، ومواجهة
الابتلاء ... !
محدودية الحواس :
يثبتُ اللهُ في كتابه محدودية بصر الإنسان ، ومن ثم عجزه عن رؤية كل ماقد خلق الله في الوجود ... يقول تعالى - في سورة الحاقّة - :
" فلا أقسمُ بما تُبصرونَ 38 ) وما لا تبصرون 39 ) إنّه لقولُ رسولٍ كريمٍ 40 )
معنى هذا أنّنا نمتلك الأعينَ ولكن لانمتلك مطلق الإبصار ؛ فهناك من آفاق الأرض والسماء ما لا نراه ، وما لانحيط به .
وهذا الذي لا نراه جليلٌ ... عظيم ؛ فاللهُ يقسم به ، ويستدلُ به على قدرته .
** كذلك أسماعُنا : لا تحيط بكل صوت ، ولا تسمع كل شئٍ ، فنحنُ لا نسمع صوت أعماق الأرض وحركة صخورها ومعادنها وأعماقها ... ، ونحن لا نسمع دبيب الكائنات الدقيقة التي تدبُّ عليها ، ولا تلتقط ُ آذانُنا صوت تمدّد الأرض أو انكماشها ، ولا تلتقط صوت حركات الجبال ومرورها ...
كما أن أسماعنا لا تلتقط ما يدور من حركة وصوتٍ في عالم السماء وأجوازها ؛ فنحن نحسبُ الأرض هامدة ، ونحسب السماء هامدة أيضا ، ونظن السحاب كما نراه : صامتا بينما يمور بالحركة والصخب والضجيج والحياة .
كذلك الكواكب والنجوم والأجرام السماوية والنيازك ، والشمس والقمر ، بل ... كذلك الحياةُ ما بين الأرض والسماء :
حركة الهواء والرياح ، والطيور البعيدة النائية ، وبخار الماء المتصاعد من البحار والمحيطات ، وصوت الماء النازل من السماء ، و...
إنها منظومة ... منظومة من الوجود الدائر المُدار بحكمة الله وتدبيره ، وإنها عوالم رحبةٌ واسعة متنوعة من خلق الله : منها ما يدب على الأرض ، ومنها ما يطير بجناحيه ... منها ما يسعى على أربع ، ومنها ما يسعى على ثلاث ، أو على اثنتين ، ومنها ما يزحف على بطنه ...
من مخلوقات الله ما ينام على ظهره أو جنبه ، أو بطنه كالإنسان ، ومنها ما ينام واقفا كالحصان ، وما ينام مقلوبا كالخفاش ، وما يفتح بعض عينيه كالثعلب ... !
هذه العوالم والكائنات الرحبة لها حركاتها وأصواتها ولغاتها ، ولها - مثلما أثبت تعالى في كتابه - تسبيحها وعبادتها الدائمة المنتظمة ، ولكنّا ... نحنُ لا نسمع كثيرا من هذه الأصوات ، مثل : أصوات الملائكة ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض ، وسائر الكائنات الدقيقة على الأرض ، أو في السماء !
كما أنّنا نسمع بعض هذه الأصوات دون أن نفقه ما تقول .
يقول تعالى :
" وإنْ منْ شئٍ إلاَّ يسبحُ بحمدهِ ولكنْ لا تفقهونَ تسبيحَهم "
سورة الإسراء / الآية 44
*** وقد توصَّل كثيرٌ من العلماء إلى عجز التكوين الإنساني عن تحمّل سماع الأصوات الكونية الموجودة في باطن الأرض أو في عالم السماء ، أي أنّ الإنسان لم يخلق مجهّزا بالقدرة على سماع الأصوات التي حُجبت عنه ، والتي حجبها اللهُ عنه رحمة منه وإشفاقا على الإنسان من صخب الكون وضجيجه . فضلا عن حكمة أخرى تتراءى لنا في هذا الأمر ، هي :
أنّ الله سبحانه لم يرد أن يشغل الإنسان عن عبادته ، وعن إعمار الحياة بمثل هذا الصخب ، وبمثل هذه العوالم التي لن يفيده سماع أصواتها دون فهم لغاتها ، ولن يمكّنه فهم لغاتها من التفرغ للغاية التي خُلق من أجلها ، وهي العبادة .
ومن هنا كان تكوين الإنسان معدّا بكيفية لا يستطيع معها سماع أصوات كثير من هذه العوالم الكونية . ويثبتُ العلماء أن الإنسان لو تهيأ له - على سبيل الافتراض - أن يسمع الأصوات الدقيقة في الأرض ، أو في السماء - مما حجبه الله عنه - لانفجر جسده بتأثير هذه الأصوات ، وقوة ذبذباتها التي لا يحتملها تكوين الإنسان !
* نحن لا نرى ماوراء الواع المحسوس المعيش ، لا نرى لطائف الوجود ، ولا نرى حركة الأرواح في غدوها ورواحها ، لا نرى سعي الروح إلى خالقها ، وعودتها إلى حظيرتها الآمنة ، لا نرى مدى تمكن الذات الإلهية من مخلوقاتها . يقول تعالى وهو يصف حركة روح المائت ، ومدى قرب الله منه - ونحن في عمائنا - :
" ونحنُ أقربُ إليه منكم ولكن لا تُبصِرُون " الواقعة / الآية 85
** أبصارنا لا تحيط بما خلق الله ؛ ودليل ذلك أن الله يثبت في كتابه الكريم أنه قد خلق السماء بغير عمدٍ نراها . يقول تعالى :
" اللهُ الذي رفعَ السماواتِ بغيرِ عمدٍ تروْنَها " الرعد/ الآية 2
** من هنا ينبّهنا الله إلى كونه - وحده - السميع البصير ، وإلى كونه - وحده منْ يملك السمع ويملك البصر . يقول تعالى :
" أمَّنْ يملكُ السمع والأبصارَ ومنْ يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ "
سورة ق / الآية 22
إذن امتلاك السمع والأبصار خاصية إلهية وقدرة إلهية خاصة لله وحده ، تتبعها صفات الألوهية الأخرى والتي لا تكون إلا لله ، مثل : القدرة على إخراج الحي من الميت - كما ذكرت الآية السابقة .
** معنى هذا أن محدودية حواسنا خاصية بشرية وإنسانية حتمية ، مقدرة علينا ، مخصوصة بنا ، من خصائص جبلتنا ، فنحن المخلوق والذي لا بد أن يكون ناقصا ، متناهيا .
** إنّ ضعف الجبلة البشرية كامنة في طبيعة خلق
الإنسان ذاته ، ففي خلقته الوهن والضعف .
يقول تعالى :
" فلْينظُرُ الإنسانُ ممَّا خُلِق 5 ) خُلِقَ منْ ماءٍ
دافقٍ 6) يخرجُ من بينِ الصُّلبِ والتّرائبِ 7 )
إنّهُ على رجعهِ لقادرٌ 8 ) يومَ تُبْلى السّرائرُ 9)
فمالهُ منْ قوةٍ ولا ناصرٍ 10 " سورة الطارق .
ويقول تعالى : في سورة عبس :
" قُتِلَ الإنسانُ ما أكْفَره 17 ) منْ أيِّ شئٍ خلَقِه 18 ) منْ نُطفةٍ خلَقهُ فقدّره 19 "
الحمق الإنساني :
الإنسان ليس كائنا ضعيفا محدودا فقط ، بل كائنٌ يسكنه الحمقُ ويلاصقُ روحه ؛ فهو لا يدرك ضعفه ، ولا ينتبه إلى محدوديته ؛ كما أنّه لا يكف عن السؤال والجدال والتحامق المثير للسخرية والشفقة ؛ فهو - فضلا عن ضعفه - يظنّ أن خالقه لا يحيطُ به ... لا يراه ... لا يسمعه ... لا يحيط بأمره ... ، لا يرصد حركاته وسكناته ، لا يتربص به ... ، وكأنه مخلوق عبثا ، ومخلوق بغير هدف ولغير غاية ! يقول تعالى واصفا هذه الغفلة الإنسانية الحمقاء - أو - هذا الحمق الغافل المتغافل :
" أيحسبُ أنْ لن يقدرَ عليه أحدٌ 5 ) يقولُ أهلكتُ مالاً لُبَدا 6 ) أيحسبُ أنْ لم يرَهُ أحدٌ 7 ) ألمْ نجعلْ لهُ عينين 8 ) ولساناً وشفتين9 ) وهديناهُ النّجدين 10 )
إنّ الله - سبحانه - يذكرنا بقدرته من خلال تنبيهنا إلى كيفية خلقه لنا ؛ فهو الذي خلق لنا العينين واللسان والشفتين و.... و..... فكيف يعجز - سبحانه - عن رؤيتنا وسمعنا ومحاسبتنا ، وهو الذي خلق هذه القدرات والحواس فينا ؟
** ينبهنا الله - على مدار كتابه الكريم - من هذه الغفلة وهذا الحمق ، بأن يصف لنا - عبر طرح قرآني متنوع ، متعدد المواضع - طبيعة خلقتنا وجبلتنا ، ومدى هوان صنعها على الله ، وعدم استعصائها عليه ، يصف سبحانه مراحل خلقه لنا لننتبه إلى ضعف الجبلة ، وعظمة الخالق ، وعدم إمكانية الخروج عنه أو الخروج منه ... يقول تعالى :
" أيحسبُ الإنسانُ أنْ يترك سُدى 36 ) ألم يكُ نطفةً من منيٍ يُمْنى 37 ) ثمّ كان علقةً فخلق فسوّى 38 ) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى 39 )
كيف هو حال الإنسان وشعوره وهو يتأمل ذاته التباهية الفخورة المستعلية على خالقها - كيف هو حاله - حين يخبره الله أن هذه الذات المتكبرة أصلها من نطفة ثم علقة ثم كائن يتطاول ويتكبر ، ويجادل ، ويقترف المعصية بقلب هادئ خال من الرهبة من يد الخالق الذي سوّاه بهذه الكيفية في هذه المراحل والأطوار ؟
** وفي مواضع شتى من الكتاب الكريم يلفت الله
انتباهنا إلى أنّنا أهون عليه في الخلق من بعض
المخلوقات الأخرى مثل السماء ، فنحن غير
معجزي الله في خلقه لنا ! يقول سبحانه :
" أأنتُم أشدُّ خلقاً أم السماءُ بناها 27 ) رفعَ
سمكَها فسوّاها 28 ) وأغطشَ ليلها وأخرج
ضُحاها 29 ) سورة النازعات
كما ينبّه الإنسان بأنّه - أبدا لن يستطيع أن يخرق الأرض ، أو أن يكون في قامة الجبال . يقول سبحانه :
" إنك لن تخرقَ الأرضَ ولنْ تبلغَ الجبالَ طُولا " الإسراء / 37
** يرتكز الخطاب القرآني في كثير من المواضع على أسلوب الترهيب لتذكير الإنسان بضعفه ، وتننبيهه من هذه الغفلة ، و- من ثم - تنشيط شعوره بجلال الله وقوة بطشه ، وجبروته ، وقدرته على هذا ال... إنسان المخلوق من : ط ي ن ، أو من :
ف خ ا ر ... ! أي مصخلوق من جبلة هشة سهلة الكسر والحرق والتحطيم ، جبلة : لينة تُعصر ، ويابسة تُكسر ...
يقول تعالى في معرض الترهيب والتخويف من عظمته ، مخاطبا هذا الطين المتكبر ، هذا الضعف المتحامق ، هذه الهشاشة المتطاولة المختالة الفخورة - يقول :
" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشُوا في مناكِبِها وكُلُوا منْ رزقِه وإليه النشورُ 15 ) أأمِنتُم منْ في السماءِ أنْ يخسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ 16 ) أم أَمِنتُم منْ في السماءِ أنْ يرسلَ عليكم حاصباً فستعلمُون كيفَ نذيرٌ 17 ) ... سورة المُلك
كما يقول - في السورة ذاتها "
" قلْ أرأيتُم إنْ أصبحَ ماؤُكم غوْرا فمنْ يأتيكُم بماءٍ معين " الآية 30
جحود الهشاشة الإنسانية :
كثيرةٌ هي المواضع القرآنية التي تصف جحود الإنسان ونكرانه فضل الله عليه ورعايته له وإنعامه ... كثيرة هي هذه الآيات التي تصف طغيانه وكفره ، وتطاوله الأحمق غير المبرر ، وغير المفهوم ، وغير المقبول ...
كثيرة هي هذه المواضع التي تصف الإنسان وهو يتصدى بكيانه الجسدي والنفسي والعقلي الهش - يتصدى للخالق بالإنكار ، أو يتصدى بالكفر ، وتكذيب البعث ، والنشور ، وإنكار مطلق القدرة الإلهية ...! رغم أن الإسنان لا يحتاج في إثبات كل هذا إلا إلى نظرة إلى كيانه الهش الضعيف الدقيق في صنعه والدال على وجود خالق عظيم - في الوقت ذاته ، فقد خلقه الله في أحسن تقويم ، وخلقه بميزان حساس دقيق بارع ؛ فلو كان الله خلق الإنسان أضعف ممّا هو عليه ، لكان الإنسان عاجزا عن العبادة وإعمار الأرض ... ! ولو كان خلقه أقوى مما هو عليه لأصبح الإنسان أكثر طغيانا وكفرا وإفسادا في الأرض ...! فسبحان الله ... سبحان الله الذي خلق كلّ شئٍ بقدر وحساب ، وخلق كل شئٍ بمعيار التوسط والاعتدال .. وجعل لكل شئ مقدارا لا يزيد عليه ولا ينقص ... ومع ذلك يتطاول الإنسان وينكر هذا الإعجاز !
من المواضع القرآنية التي تؤثّر في عقلي ونفسي وروحي تأثيرا شديدا وهي تصف المفارقة بين ضعف الجبلة الإنسانية وبين قوة الجحود والنكران والإنكار والحمق الإنساني - من هذه المواضع - قوله تعالى في سورة "يس " :
"أوَ لمْ يرَ الإنسانُ أنّا خلقناهُ منْ نطفةٍ فإذا هو خصيمٌ مبينٌ 77) وضربَ لنا مثلاً ونسيَ خلقَهُ قالَ منْ يُحيي العظامَ وهي رميمٌ 78 ) قُلْ يُحييها الذي أنْشَأَها أوّلَ مرّةٍ وهو بكِّ خلقٍ عليم 79 ) الذي جعل لكم من الشجرِ الأخضر ناراً فإذا أنتُم منهُ تُوقِدون 80 ) أو ليسَ الذي خلَقَ السماواتِ والأرضَ بقادرٍ على أنْ يخلقَ مثلهم بلى وهو الخلاّقُ العليم 81 ) إنّما أمرُه إذا أراد شيئاً أنْ يقولَ له كُنْ فيكون82 ) فسبحان الذي بيدِه ملكوتُ كلِّ شئٍ وإليه تُرجَعُون " 83 )
هل تنظر معي وتتأمل في هذه المفارقات التي جمعها الله في آية واحدة :
نطفة / خصيم مبين
ضرب لنا مثلا / ونسي خلقه
يحييها / الذي أنشأها
الشجر الأخضر / نارا
إن الله - سبحانه يوضح في هذه المفارقات والثنائيات مدى عماء الإنسان وجهله وجحوده ، فهو مخلوق من نطفة وهو لخالقه خصيمٌ مبين ! ... وهو ينكر قدرة الله على بعثه من الموت وينسى قدرة الله على خلقه من عدم !... يتساءل عن إمكانية إحيائه ويتجاهل كيفية خلقه ! ... يتعامى عن الخالق الذي جعل له الحياة والموت متجاورين في أشياء كثيرة ؛ فقد خلق له الشجر الأخضر حياة ونماء وإثمارا وظلالا ، وجعل من هذا الشجر ذاته حطبا ونارا للتدفئة وللإماتة أيضا ... وللعذاب ، وإنضاج الطعام ، و... وهكذا خلق له الأضداد متجاورة !
يتعامى الإنسان عن خلق الله للسماء والأرض وهما أعظم منه وأشد دلالة على قدرة الله ... !
*** إن الإنسان كيان محدود هش ضعيف ، لكنه قابل للعملقة والقوة اللامحدودة إذا ارتكز على
الإيمان بالله ، وإذا دعّم ضعفه بقوة الله ... هنا ...
وهنا فقط يكون الإنسان لا محدودا ولا متناهيا ...
يقول تعالى - سورة الرحمن - :
" يامعشر الجنّ والإنسِ إنْ استطعْتُم أنْ تنفُذوا من
أقطارِ السماواتِ والأرضِ فانفذوا لا تنفذون إلا
بسلطانٍ " الآية 33
هل
أدركنا
سر
هذا
السلطان ؟
وهل
أدركنا
مدى رحمة الله
في أن
جعلنا
محدودي الـــ
قدرة بدونه ؟
بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح
تعليقات
إرسال تعليق