الظّبيُ والعقدُ ... والخنزيرُ : قصّةُ الكمالِ الـ ... مُحال

القناعةُ والرّضا والقدرة على التكيّف مع القضاء والقدر إشكاليةٌ إنسانيةٌ كبرى ... بل ربّما تكون الإشكاليّة الأكبر في حياة الإنسان ...
والإنسانُ في عمومه - إلا من اعتصم بإيمانه بالله - متبرّمٌ بقضائه وقدره ، ساخطٌ على معطياتهما ، ناقمٌ لأنْه لم يأخذ من الخير أكثر ممّا أخذ ، ولأن حظّه  من السوء والكدر لم ينقص أكثر ممّا هو عليه ...
** الإنسانُ يقضي حياته في عماءٍ تام ؛ فهو لا يرى ماأنعم اللهُ به عليه ، لكنّه يرى - وبوضوح شديدٍ  - ماأنعم اللهُ به على غيره ...! ؛ ولذلك فهو لا يكف عن المقارنة بين حاله وحال الآخرين في حسرة شديدةٍ على حاله ، وفي غفلة شديدة عمّا في يده ، يقضي العمر في انتظار مالا يأتي أبداً ، في انتظار : الــ " كل شئٍ "    ...  يبدِّدُ الإنسانُ عمره في انتظار أنْ يملك كلّ شئٍ ، ويستمتع بكلِ شئٍ ، ويقدر على كلِ شئٍ ... في انتظار أنْ يقبض على أطراف الوجود بيديه الصغيرتين العاجزتين ، وأن يديرَ الأرضَ في الوجهة التي يريدها مثلما يديرُ الصبيُ كرة اللعبِ في فضاء غرفته  ... !         
** وفي انتظار هذا الذي لا يتحقّق يتبدّد العمرُ الإنساني ما بين الحسرة والحنق والبكاء والحزن ، والشكوى التي يتعالى نحيبها إلى السماء ... يتبدّدُ العمر الإنساني ونحن في : غفلة عمّا نملك ، وفي حسرةٍ على ما لم نملك !

*** في الحكاية الشعريّة : " الظّبيُ والعقدُ والخنزير " صوّر الشاعرُ " أحمد شوقي " هذا الصّراع المأساوي بين :
                                           المُتحقّق ... المُمْكِن 
                                           والمأمول... المُرْتَجى
صوّر الصراع الإنساني  بين الواقع والمُرْتَجى ، وصوّر مأساة البدد الإنساني في انتظار ما لا يأتي ...
وقد استطاع الشاعر أنْ يطرح هذه الإشكالية الإنسانية الكبرى باقتدارٍ فنيٍ في هذه الحكاية الشعرية المُندرجة تحت أدب الأطفال  ...! بينما أراها جديرة بأنْ تندرج تحت شعر الحكمة وتهذيب النفس الإنسانية ، فهناك الكثيرُ منّا  نحنُ  الـ... كبار يحتاجها ربّما  أكثر من الأطفال الذين قد تعصمهم من هذه الظّلمات  براءتُهم وعفويَّتهم وأفراحهم اللا محدودة بكلِ مايثيرُ البهجة ولو كان محدودا ... 

** بطلُ هذه الحكاية الشعريّة: غزالٌ ( ظبيٌ ) ، وخنزيرٌ ، وعقدٌ من اللؤلؤ ... كان الظبيُ جميلا بديع الرّقبة رائع الطّلعة بهيّا ، كان الجمالُ هو الرزق المقسوم له في الكون ، وكان محلّ إعجاب الجميع ومديحهم ، ولكنّه لم يرض بهذا الرّزق ، ولم يكتف به ... طلب المزيد ... وهفت روحه إلى عقدٍ من اللؤلؤ يزيّن رقبته البديعة الجميلة ، عقدٍ من اللؤلؤ يبرزُ جمال هذا الجيدَ النّاصع العاجيّ ... يقول الشاعر :
ظبيٌ رأى صورَتَهُ في الماءِ     فرفعَ الرّأسَ إلى السّــمــاءِ
وقالَ : ياخــالقَ هذا الجيــدِ     زِنْهُ بعقـــدِ اللؤلــؤِ النّضيـدِ
فسمعَ الماءَ يقولُ مُفْصِحا :     طلبتَ ياذا الظّبيَ ما لن تُمنحا
إنّ الذي أعطاكَ هذا الجِيدا      لم يُبقِ في الحُسنِ لهُ مزيدا
لو أنّ حسْنهُ على النّحور        ما خرجَ الدُّرُّ من البُــحورِ
فافْتَتَنَ الظَّبيُ يذي المقالِ         وزادَهُ شــوقاً إلى اللَّآئيِ
ولمْ ينَلْــهُ فمُــهُ السّقيــمُ          فعاشَ دهراً في الفَلا يهيمُ
حتّى تقضّى العمرُ في الهُيام   وهَجْرِ طِيبِ النّومِ والطّعامِ

** لقد كان الجمالُ إذن وبالاً على هذا الظّبي ، ولم يك نعمة له ؛ فقد كان جماله سببا في أن يتطّلع إلى المزيد من النّعم ، وأن يتوهّم أنّه يستحق المزيد من هذه النّعم ؛ فافتتن بحسنه وجماله ، واشتهى اكتمال نعمته ؛  فتمنّى عقد اللؤلؤ ليزيّن به هذا الحسن ، وتكتمل به منظومة الجمال ...! لقد أراد الظبي الاكتمال الذي لا يكون لكائنٍ ، ولا يتحقّق لأيّ مخلوق في الوجود ... نسي الظّبي أن النقص جزءٌ من خلقتنا وطبيعتنا وأنّه أساس وجودنا؛ فأنفق العمر يبكي على : عقد اللؤلؤ ... بدّد العمر يبكي على ما لم يُرزق به ، وألهاهُ انتظار عقد اللؤلؤ- الذي لا يملكه - عن التنعّم بالجمال الذي يملكه ... وبذلك فقد الظبي النُّعمتين معا :
- النعمة المرجوة التي لم تتحقق بعد ...!
- النعمة الموجودة التي ضاع الإحساس بها بالانشغال عنها إلى حدِّ إنكارها  ...!
*** وجاء صوتُ الحكمةِ في محاولة إنقاذ الظبي من ضلاله وغفلته وضياعه ، وكان الماءُ هو رمز الحكمة - في هذه القصّة الشعرية - فساق إلى الظبي حكمةً ثمينةً غاليةً ... حكمة نفيسة تقول : إنّ الكمالَ محالٌ ... الكمال محالٌ ... الكمال محااااااااال ...
وبما أنّ المحال لا يتحقق يجب عليك أيُّها  الظَّبي أنْ تحتمي بالرّضا وتلوذَ بالقناعة ، وأن تفتّش في نعمتك المُتحقّقة وهي كافية لإشباعك  وإسعادك لو انتبهت إليها ... ! يقول الشاعرُ :
فَسَمِعَ الماءَ يقولُ مُفْصِحا :         طلبتِ ياذا الظّبي ما لنْ تُمْنحا
إنّ الذي أعطاكَ هذا الجيدا          لم يُبقِ في الحُسنِ له مزيدا
لو أنّ حســـنه على النحور         ما خرجَ الدُّرُّ من البـــــحور
لم يتفهّم الظبيُ أنّه قد طلب ما لنْ يُمْنح  له  ، وهو عقد اللؤلؤ ، وأنه لن يُرْزَق به لأنّه نال مقداره من الرزق والنّعم _ ممثّلا في جماله الفاتن - ، ومن ثمّ لن ينال المزيد ... لم ينتبه الظبي إلى كل هذه الخُلاصات الحكميّة الكفيلة بنجاته وإنقاذه ... لم ينتبه إلاّ إلى أمرٍ واحد هو : أنّ حسنه فائق رائع ، ومن ثمّ فهو الأحقّ بإكمال زينة هذا الحسن ، وكان وهمُه سببَ ضياعه ، وكانت نعمتُه هي بلاؤه ومبعث حسرته ؛ فتقضّى عمرُه في الهُيام والشرود ومساءلة القضاء والقدر ...!

* اكتملتْ مأساةُ الغزال حين رأى خنزيراً َّيتحلّى  بعقد اللؤلؤ الذي قضى العمر في انتظاره والبكاء عليه ...... ؟!  هذا العقد ذاته يزيّن رقبة خنزيرٍ دميمٍ ... هنا جُنّ جنونُ الظبي ؛ إذْ كيف يحرمُ من عقد اللؤلؤ وهو الظبي الجميل ، وكيف يرزقُ هذا الخنزير الدميم بما لا يستحق ، وبما لاينبغي - في منطق الظبي - أن يكونَ له ... ؟! آآآه لو رُزق بالعقدِ كائنٌ آخر غير الخنزير ؟ ... هان الأمرُ وهانت لطمة الحرمان لو لم يكن الخنزير هو الفائز بهذه الزينة المُرتجاة ، وهذا الأمل الذي توقّفت بسببه الأرض عن دورانها في عين الظبي ... كلّ شئ ، أيُّ أحدٍ إلآّ الخنزير ... وهكذا يتصاعد الشاعرُ بنا - ومعنا - إلى قمّة التوتّر الدرامي لهذه القصة الرمزية البديعة ... فيجعل من ظهور الخنزير على مسرح الأحداث ذروة المأساة الـــ... إنسانية ... يقول أحمد شوقي واصفا هذه اللقطة التراجيدية التي أدخل فيها ظبيه  : 

فسارَ نحو الماءِ ذاتَ مرّة        يشكو إليــه نفْعَــهُ وضُــرَّه
وبينما الجارانِ في الكلام         أقبلَ راعي الدِّيرِ في الظَّلام
يتبعُهُ حيثُ مشى خنزيرُ          في جيـــدهِ قِــلادةٌ تُنيـــرُ!
فاندفعَ الظّبيُ لذاكَ يبكي          وقالَ منْ بعدِ انجلاءِ الشّكِّ
ما آفةُ السَّعي سوى الضَّلال     ما آفةُ العمرِ سوى الآمال
لولا قضـاءُ المـلكِ القديـر       لَما سعى العقدُ إلى الخنزير 

**** أبدعَ شوقي  في هذه الحكمة : 
لولا قضاءُ الملكِ القدير        لما سعى العقدُ إلى الخنزير 
نعم إنه قضاء الله الحكيم الخبير البصير الذي يعلم - وحده - منْ يستحق وماذا يستحق ... منْ يعطي وماذا يعطي ولماذا يعطي ... ومتى يعطي ... ! 
لم يدرك الظّبيُ أن حرمانه  من عقد اللؤلؤ ، ومنح الخنزير هذا العقد عين العدل والتكافؤ في الأنصبة والأرزاق ، حيث يصبح جمال الظّبي في مقابل ثراء الخنزير وزينته الخارجية ، وبذا يتساويان في مقدارهما من الحياة ... لكن الظبي لم يستوعب عدالة هذا التوزيع ، وشغله القنوط والحسرة والطّمع والحمق عن بلوغ  الرّضا ، ومن ثم حُرم من إدراك الحكمة ... فجاءه صوتُ الحكمة  - الماء - مرّة ثانية  ولكن لا ليعظه أو ليرشده ، بل لينعاه ويبكيه ويرثي عمره ... يرثي عمر  الظبي الذي تبدّد في الحمق والغفلة والـ ... هباء ... وأنا  لا أرى ولا أقرأُ في هذين البيتين إلاّ رثاء الإنسان  ... لا أقرأُ فيهما إلا نعيا مؤلما ومرثية مفجعة للإنسانية في مأساتها المكرورة - دون عظة واعتبار ... يقول  :
فالتفتَ المــاءُ إلى الغزالِ       وقالَ : حالُ الشّيخ شرُّ حال
لاعجبَ إنّ السنينَ مُوقِظة   حفظتَ عمراً لو حفظتَ موعظة !
نعم ... نعم ... كان من الممكن للظبي - لكلٍّ منّا أن يحفظ عمره ويحياه موفورا هانئا لو كان يدرك فلسفة الرّضا حكمة القناعة التي فرضها  الله علينا رحمةً بنا ... 
***
منْ مُنطلقٍ رحمة الله وحنانه بعباده  أنْ أمرهم بألاّ يتطلع بعضهم إلى نعم البعض الآخر ، وألاّ ينشغل أحدهم برزق غيره ... قال تعالى :
" لا تَمُدَّنَّ عينيكَ إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم ولا تحزنْ عليهم واخْفِضْ جناحَكَ للمؤمنين " سورة الحجر / الآية 88
وقال تعالى :
" ولا تَمُدَّنَّ عينيكَ إلى ما متَّعنا به أزواجاً منهم زهرةَ الحياةِ
الدُّنيا لِنَفْتِنَهم فيه ورزقُ ربِّكَ خيرٌ وأّبْقَى " سورة طه الآية 131

* نقولُ : منْ منطلق رحمة الله وحنانه ورفقه بعباده أمرهم  بعدم التطلّع إلى أرزاق بعضهم البعض وأنْعُم بعضهم البعض ؛ ذلك لأنّ الله - تعالى - يعلم أنّ الكثير من عباده غافلٌ عن حكمته التي يدير بها الكون ويدبر بها الأمر ، ويوزّع بها الأرزاق والنّعم ، يعلمُ أنّ الكثير من عباده لا يبصر إلآ ظواهر الأمور ، ويعجز - من ثمّ - عن إدراك الجوهر والحكمة ؛ إذن لا يليق بمن يعجز عن إدراك الجوهر أنْ يفتّش وينقّب ويتساءل عمّا لن يدركه ولن يفهمه ، ولن يستطيع - بحالٍ - أن يتوصّل إلى حكمته ...!

** إنّ الحكمة الإلهية هي التي تديرُ النّعم في الكون ، وتوزّعها على الخلقِ ثواباً وعقاباً ، بلاءً وابتلاءً ؛ لأن الرزق والنّعم والعطايا الإلهية لا تكون دائما دليلا على رضا الله وعفوه وحبّه لمنْ أنعمَ عليه ، كما أنّ الحرمان والمنع والأخذ لا يكون دائما دليلا على قاطعا على غضب الله ونقمته وكراهته لمنْ حرمه أو ابتلاه ... !
**** إنّ الله - سبحانه يديرُ النّعم في الكونِ إدارة حكيمة رشيدة كمّا وكيفاً ، وإدراته لهذه النّعم تدلُّ على تدبيره وجلاله وعدله وألوهيّته وإحاطته بدقائق هذا الوجود وما فيه ... فاللهُ ينعمُ ويمنح من بابِ الرّضا والتقدير والإثابة والإكرام ، كما أنّه يعطي ويمنح بعض عباده من باب سخطه وغضبه ومشيئته قاصداً  أنْ يفتن  هؤلاء العباد ،فيفتح عليهم أبواب كلِّ شئٍ ، يطلقُ عليهم الدّنيا بزخرفها لتوقظ سُعاَرهم وتنصب لهم أفخاخها وأشراكها عقوبة لهم على ذنوب اقترفوها ، أو من باب تأدية حقوق كانوا من قبل قد سلبوها ، أو من باب الإمداد والإمْهَالِ لهم والإغراء بالفتنة ...


*** كما أن الله - سبحانه - يقدّر الرزق على بعض عباده ، فيجعل رزقه من بعض النعم أقلّ من غيره إمّا حبا منه وإشفاقا على هذا العبد من فتنة الدنيا ، وإيثارا له واصطفاء  للخير والطّاعة والعبادة ، أوادّخارا لأجره في الآخرة  ، فاللهُ  يعلم أنَّ هناك من عباده من يهذَبُهُ الحرمان ، ويقرّبه إليه ويجعله أكثر طاعة وعبادة بينما النّعم تفتنه وتفلته من دائرة الخير ...
وقد يحرم اللهُ بعض عباده من بعض النعم عقابا وتنكيلا به ، أو حدّا من طغيانه وجبروته وظلمه لغيره ، وإشفاقا على من معه من أهله أن يطغى عليهم إذا أصبح من أصحاب النّعم ... وهكذا ... وهكذا ... إنها التدابير الإلهية وحدها التي تدير النّعم في الكون ... - كما تدير كل شئ ...وهذه التدابير وحدها هي التي تدرك هذه الفروقات بين العباد ، وهي وحدها التي تملك مهارة التباديل والتوافيق بين أنعم الخلق ، وتدرك لمنْ يكونُ العطاء نعمة أو نقمة ، ولمنْ  يكون الحرمانُ عقابا أو استدراجاً ... 

*** وإنّ تأمّل الحكمة الإلهية في إدارة النعم كفيلُ - وحده - بأن يؤدي إلى الإيمان واليقين بحسن تدبير الله وعدله ؛ فأنصبةُ البشر من نعم الله وعطاياه مسألة شديدة الصّلة بعدل الله وحكمته ، شديدة الصلة بالأصول الكبرى للألوهية ... - ومن ثم - فإن عدم الرّضا وعدم القناعة بما رزق الله ، مع النّظر إلى رزق الآخرين والتطلع إلى ما معهم واشتهاءه يعني التشكّك في عدل الله وحسن تدبيره وحكمته ، أي التشكُّك في جوهر الألوهية ...!

*** إنّ الإنسان الساخط على مقدوره وأنصبته من الرزق ... الحانق على قضائه وقدره ، المتطلع إلى أنعم الآخرين وأرزاقهم إنّما يتشبّه بإبليس  ، ويعيدُ - مرّة أخرى - مأساة إبليس  ، حين رأى نفسه أفضل من آدم لأنه خُلق من النار بينما خُلق آدم من الطّين ،ثم حسد آدم على نعمة تكريم الله له بسجود الملائكة له فحنق على آدم ، ورفض أنْ يسجد له ، وجادل ربّه في أنصبته وأنصبة آدم ، فبدا متشككا في عدل الله ،فدخله الكفر ، وكان عقابه لعنة الله عليه إلى يوم الدين ،  فتوعّد الإنسان أن يوسوس له ويزيّن له الجحود والكفر بأنعم الله حتى تزل قدمه ، ويزل عن صراط اله المستقيم ، فيصل إلى الكفر- مثله -  ويلحق به في الجحيم ... كان وعيدُ إبليس للإنسان أنّه سيشغله عن شكر الله ، وسيوسوس له حتّى يشكو الحرمان من النعم وينكرها وهي ماثلة بين يديه  ... !
صوّر اللهُ تعالى أطراف المكيدة الإبليسية وتفاصيلها  في سورة الأعراف ... وطرح لنا جدال إبليس حول العدالة الإلهية  في توزيع النّعم . يقول تعالى :
" قال ما منعكَ أنْ تسجدَ إذْ أَمرْتُكَ قالَ أنا خيرٌ منهُ خلقْتنِي منْ نارٍ وخلَقْتَهُ من طينٍ 12 ) قالَ فاهْبِطْ منها فما يكونُ لكَ أنْ تتكبَّرَ فيها فاخْرُجْ إنَّك من الصَّاغرين 13 ) قالَ أَنْظِرْنِي إلى يومِ يُبعثُون 14 ) قالَ إنَّك من المُنْظَرِين 15 ) قالَ فبِما أغْويتَنِي لأَقْعُدَنَّ لهم صراطَك المُستَقيم 16 )  ثمّ لآَتِينَّهُم منْ بين أيدِهِم ومنْ خَلْفِهم وعنْ أيْمانِهِم وعنْ شمائِلِهم ولا تجدُ أكْثَرَهُم شاكِرين 17 ) قالَ اخْرُجْ منها مذءُوماً مدحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ منهم لأمْلأّنَّ جهنّم منكُم أجْمَعين 18 )
توعّد الشيطانُ الإنسان بأن يحيد به عن طريق الشكر ، ووعد  الله أنه سيجتهد حتى لا يدع من عباده شاكرا إلاّ القليل ... وهذه المأساة هي ما يؤكّدها الطرحُ القرآني في كثيرٍ من المواضع ... :
 يقول تعالى : " إنَّ اللهَ لذو فضلٍ على النَّاس ولكنَّ أكثَرهم لا يشكرون " سورة يونس / الآية 60
ويقول تعالى :
" ولكنَّ أكثر النَّاس لا يشكُرون " سورة البقرة / الآية 243
ويقول تعالى :
" وقليلٌ من عباديَ الشَّكورُ " سورة سبأ / الآية 13
** إن جحود نعم الله بابُ التّشيطن ... باب الكفر ... وإنّ الآيات القرآنية تطرحُ الكفر نقيضا للشكر ، والشكر نقيضا للكفر ...
يقول تعالى- سورة البقرة / الآية 151 :
" فاذْكُرُونِي أذكُرُكُم واشكُروا لي ولا تكفُرون "
ويقول - سورة الإنسان - :
" إنَّا هديناهُ السَّبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كفورا " الآية 3
** وقد جعل اللهُ الشكر شرطا من شروط العبادة وطقسا من طقوسها ... يقول - سبحانه -
" يا أيُّها الذين آمنوا كُلُوا منْ طيَّباتِ ما رَزَقْناكُم واشْكُروا لله إنْ كُنْتُم إيَّاهُ تعبُدون " سورة البقرة / الآية 172
ولذلك يحرِّض الله عباده على الشكر ويحثّهم على ارتياده لأنه طريق الإيمان والنّجاة والخلاص والرّضا ، ولأنه الرّتاجُ الذي يغلق باب الأمل أمام الشيطان فلايجد بعد الشكر ثغرة يدلف منها إلينا وينغّص بها حياتنا علينا ، ويصيبنا بالحسرة والمرارة دون جدوى ، ودون قدرة على استعادة ما هو غائب ، ودون قدرة على التمتّع بما هو موجود ... من هنا تمتلئ الآيات القرآنية بالعبارة الإلهية المحرّضة على الشكر المستنفرة إليه ، وهي قوله تعالى : " أفلا يشكرون " ... كما يتردد في آيات القرآن قوله تعالى " لعلّهم يشكرون " ...

*** وإنّ العلاقة بين الشكر والإيمان هي التي تجعلنا ندرك حكمة الله في عقاب الجاحدين ، فاللهُ يعاقب الجاحدين عقابا شديدا ، ويأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر ، ويسلبهم ما كان قد رزقهم به من النعم التي جحدوها واستهانوا بها ، ولم يؤدّوا حقَّها من الشكر ... كما حلَّ بهذه القرية التي خلّدها اللهُ عبرة وعظة لكلِ جاحد ... يقول تعالى :
" وضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانتْ آمنةً مطمئنةً يأتِيها رزقُها رغداً من كلِّ مكانٍ فكفَرتْ بأَنْعُمِ اللهِ فأَذاقَها لِباسَ الجوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعُون " سورة النّحل / الآية 112

*** يتردّد على لسان العلماء المسلمين مقولةٌ رائعة هي :
                              أنَّ الشكر قيدُ النّعم
أي أن الشكر يقيّد النعم فلا تنفلت من صاحبها ، ولا تضيع من يديه ... وهذا حقّ ... لكن الطرح القرآني يمنحنا من وعود الله ما هو أجمل وأكثر سخاء ؛ فاللهُ - سبحانه - يعدنا بالمزيد من النّعم مع المزيد من الشكر ؛ أي أنّه سبحانه لا يكتفي بأن يجعل شكرنا قيدا لما أنعم به علينا ، بل يجعل شكرنا له مدخلا لمزيد من السخاء الإلهي والعطاء الإلهي ... يقول تعالى :
" ولَئنْ شكرتُم لأَزِيدنَّكُم "
وقد ترك لنا - سبحانه - مجال " الزيادة " أو " المزيد " مفتوحا ثريّا في قوله : " لأزيدنّكُم " ، إذ يجعلنا نتساءلُ بلهفة المحتاج إلى عطائه  : هل سيزيدنا - إن شكرنا - من النعم ذاتها ، أم من مزيد من النعم ، أم هل سيزيدنا إحساسا بالرضا والرغبة في الشكر ، أم ستكون الزيادة في مقدار الإيمان والتقوى والقربى منه ؟ أم سيكون المزيد كل هذا ؟ من منطلق اليقين بالسخاء الإلهي والقدرة الإلهية أعتقد أن قوله " أزيدنّكم " تعني الزيادة الماديّة والمعنوية ، تعني ما نعلم وما لا نعلم من قدرات الله وكرمه وكبريائه وعزّته ، فهو - سبحانه - لا يقبل إلاّ أن يكون فائقا مبهراً عظيما جليلا في كل شئ ...

*** وبعد : لقد أوصلني التأمّل في هذه المسألة من المنظور الإسلامي إلى خلاصة أظنّها صادقة ، وهي :
  أنّ النّعمة ليست كامنة في وجودها بل في الإحساس بها ...  النعمة  ليست مجرد وجود وجود النعمة بين أيدينا  بل النعمة في إحساسنا أننّا  نمتلك النعمة ... فالنعمة تحتاجُ إلى مناخ معنوي يقيّد وجودها المادي...  

    ومن ثمَّ - أتساءلُ- في عودة إلى قصّة الظبي والخنزير -  :
              أيُّهما أسعدُ حالا ، وأيّهما صاحب نعمةٍ 
                            الظَّبيُ ... أم
                                     الخنزيرُ ... ؟!
                                           ؟!
                                         ...
                   
                                       بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 





تعليقات