الصَّوتُ والصَّمتُ ثنائيّةٌ إعجازيَّةٌ في سورة " مريم "

تبتدئُ سورة " مريمُ " بالنداء الخفيّ ... بالصوت الهامس والدعاء الخافت الذي يرفعهُ " زكريا - عليه السلامُ - إلى رَبِّه ويشكو فيه شيبته ووحدته ، وحاجته إلى الوَلَدِ يُسانِدُهُ ويؤازِرُه ويَرِثُهُ ويكفيهِ همَّ منْ يخاف وما يخاف ... ويحمل اسمَ آلِ يعقوب  ...
 يقولُ تعالى يصفُ حالَ النّبي "  زكريا " - عليه السلام -و بثَّه ونجواه إليه  : 
" كَهَيَعِصَ 1) ذكرُ رحمةِ رّبِّكَ عبدَهُ زكريَّا 2) إذْ نادَى ربَّهُ نداءً خَفيَّا 3 ) قالَ ربِّ إنِّي وَهنَ العَظمُ مِنِّي واشتَعلَ الرأسُ شيْبَا ولمْ أَكُنْ بدعائِك رَبِّ شقِيَّا 4) وإنِّي خِفتُ المَواليَ من ورائي وكانتْ امرأَتي عاقراً فَهَبْ لي منْ لَدُنْكَ وليَّا 5 ) يَرِثُني ويرِثُ من آلِ يعقوبَ واجْعَلْهُ ربِّ رضيَّا 6 ) 
** وصف اللهُ سبحانه نداء زكريا ودعاءه له بصفة " الخفاء " أي الاستتار والنجوى والهمس بما يدلَ على ضعف النبيّ زكريا أمام  الله ، وعدم استعظامه أن ينكسرَ بينَ يديه وأَن يُظهرَ حاجته إلى الدعمِ الإلهي ، والمساندة الربوبية المُبارَكة الكفيلة بتغيير طبائع الأشياء وتطويع قوانين الكون لإرادة الله العُليا ... 
كانَ خفاءُ صوتِ زكريّا في دعائه دالاَّ على وهنه بين يدي الله ... وقد أفاض هو في وصف هذا الوهن الذي يستوجب الاستجارة بالله ، إنه : وهنُ العظمِ والشيبة ، ووهنُ الطبيعة الإنسانية ودوافعها الغريزية التي تحتاج إلى الولدِ الوارث المُعضد ، ووهن الخوف من الآخر ... 

*** لقد أبدى " زكريا " في ندائه الخفي ضعفه الإنساني ، وإعظامه للأُلوهية والربوبية ،  وقوته الإيمانية في آنٍ واحد... فقدّر اللهُ له ذلك ، وعطف عليه وأجابَ دعاءه ، واحتفى بدعائه الخفي وخلّده في كتابه ، ووصفه في الآياتِ الكريمة بصفة الخفاء ثناءً على نبيِّه وإكراما وذكرا طيّبا له ... 

*** وكما ابتدأت سورةُ " مريمُ " بالصوتِ الخفي والدعاء الخافت ... تنتهي أيضا بالصوت الخفي ، في آخر  آياتها  ... يقولُ تعالى مخاطبا رسوله الكريم " محمد " - عليه الصلاةُ والسلام -  : 
" فإنَّما يسَّرناهُ بِلِسانِكَ لِتُبشِّرَ به المُتَّقينَ وَ تُنذِرَ به قوماً لُدَّا 97) وَ كمْ أَهلَكْنا قَبلَهُم مِنْ قَرْنٍ هلْ تُحسُّ مِنْهُم منْ أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكْزَا " 98 ) 
و " الرِّكزُ " هو الصوتُ الخافتُ الضعيف ... وكأنَّ الله سبحانه يسألُ نبيّه - عليه الصلاة والسلام - هل تشعر يامحمدٌ بمنْ أهلكنا من الأقوام ؟ هل تُحس وجودَ أحدٍ منهم ... أو هل تسمع لأحدهم ولو صوتا ضعيفا ... ؟ 
إذن كان ضعفُ الصوت في نهاية الآية الكريمة السابقة  دالاً على الهلاك والتلاشي والفناء ... دالاً على الضعف ... بينما دلَّ  في قصة " زكريا " - عليه السلام - على قوة الإيمان والاعتقاد ، وكان مدخله إلى خلود الذكر الطيب ... 

*** الصوتُ والصَّمتُ ثنائية عجيبةٌ في سورة " مريم " فالصَّمتُ آيةٌ من آيات الله  خص بها اللهُ  عبده " زكريا " بعد أن ناجاه ودعاه دعاءه الخفي ، فقد أمرهُ اللهُ ألاَّ يكلَّم الناسَ ثلاث ليالٍ سويَّا : 
" فَخرجَ على قومِه من المحرابِ فأَوحى إليهم أنْ سبِّحوا بُكرةً وعَشيَّا " 11 ) سورة مريم 
حلَّ تسبيحُ الله محلَّ الصوت ومحلّ  خطاب الناس في هذه المرحلة من قصة زكريا ... وأعقبَ تسبيحَ  الله وإكباره مخاضُ المعجزة ، ومجئ " يحيى " وتعهد الله له نبيا مباركا تقيا ... 

*** كذلك رُزِقت " مريمُ " عليه السلام بنداءٍ خفيِ جاءها من تحتها ، وكان بشرى من الله ووحيا منه بولادة " عيسى " - عليه الصلاة والسلام - قال تعالى يصفُ خطابَ  وحيه لمريم : 
" فنادَاها منْ تَحتِها ألاَّ تحزني قدْ جعلَ رّبُّكِ تحتكَ سريَّا 24 ) 

*** وكان الصمتُ آية " مريم " كما كان آية " زكريا " قبلها ... قال تعالى : 
" فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عينا فإمَّا تَرينَّ أحداً من البشرِ فقُولي إنِّي نذرتُ للرحمنِ صوماً فلنْ أُكلِّمَ اليومَ إنْسيَّا 26) سورة مريم 

وشاء الله - سبحانَه - أن تكتمل آياتُ إعجازه في هذه الثنائية العجيبة : الصوت والصمت ، فأنطقَ مَنْ كانَ في المهدِ صبيّا ... أنطق بقدرته  وليدها الذي تحمله بين يديها ليعلن براءتها ويثبت إيثار الله لها بمعجزة يرتجُ لها الوجودُ كله : معجزةُ عيسى عليه السلام الذي جاء منها دونَ أبٍ ، وأثبت أمام البشرية قدرة الله على الخلق من العدم وعلى غير مثال ، إذ جاء عيسى دون أبٍ فكان شبيها في خلقه بخلق آدم من ترابٍ ومنْ عدم ، ... بل إن معجزة خلق عيسى لتثبتُ قدرة الله على البعث والإحياء لأنها تثبتُ قدرته على الخلق بدون أسبابٍ أو قوانين فهو خالق القوانين وهو القادرُ على تطويعها وتجاوزها سبحانه ... 
لقد كان نُطقُ الوليد " عيسى "  ىيةً تثبتُ صدقَ آية ... وكانَ صمتُ أُمِّه - بأمر الله - آية تُوسعُ المجال للإبراز هذه الآية ... 
كان الصمتُ آية الله في مريم التي أبرزت آية النطق والصوت في الوليد " عيسى " عليه السلام ... 
سبحان الله : لقد جعل من خاصية الصوت الإنساني وقدرة الإنسان على الكلام مادةً إعجازية مبهرة مثيرةً للعقل والروح ... ووزعَ أنصبته في هذه المادة على منْ يؤثرُ من عباده الصالحين من آلِ عمران ، فأنزل عليهم آية الصمت ، وآية النطق ، وجعل خفاء أصواتهم عبادة ترجو الثواب والاستجابة وتستوجبُ الرحمة ... وجعل خفاء صوتِ الآخرين دالاً على الفناء وانعدام الرجاء والتلاشي ... 
** إنّ ثنائية الصمت والصوت  ثنائيةٌ  معجزةٌ مبهرةٌ في عموم الوجود ومطلق الكون ، لقد شاءَ اللهُ أن يجعل بعض خلقه ناطقاً متكلّما ، وهو الإنسان ... وجعل البشر طبقاتٍ في البيان والفصاحة ، وأقسم بالبيان - في سورة الرحمن -  باعتباره آيةً من آياتِه ونعمةً من نعمه على خلقه ، ورزق بعض عباده الهذه النعمة ، وقدّر للبعض الآخر شيئا من العيّ ، وهذا التضاد في حد ذاته ثنائية أخرى تشابه ثنائية الصمت والصوت ... فالبليغ الفصيحُ صاحب صوت ومنطق ، والعاجزُ المقيّد عن التعبير أشبه بالأبكم ... 
ويبدو الإنسانُ وحده الناطق المتكلم في هذا الوجود ، ولكن لكل مخلوق لُغته وتسبيحه الذي لا يعلمه إلاّ الله ... وهكذا تتجاور الأضدادُ في الكون ... 
* قدَّر اللهُ للإنسان محدودية في السمع تكفل له الحياة والتواصل الإنساني ، لكنه لم يُقدر له أن يسمع ما يدور في أجواز السماء ولا ما يدور في أعماق الأرض ... وهكذا يظنّ الإنسانُ أحيانا أنّه محاطٌ بالصمت والسكون بينما تلغطُ منْ حوله أُممٌ  أخرى من مخلوقات الله بما لا يستطيع سمعه ، وما لا يستطيع فهمه ... 
وكأن الصمت يتبطنه - في الوجود - الصوت ... في ثنائية عجيبة  يتناوبُها الخفاء والانجلاء ...بل في ثنائياتٍ متشابكة عميقة شديدة التعقيد والثراء ... دالة على حكمة مبهرة لا نستطيع أن نحيط بها  ونحصيها ...  

*** سبحانَ منْ عنتِ الوجوهُ لوجهه ، وسبّح اسمه كلٌّ من في الكونِ ممّن نعلم وممنْ لا نعلم ... وممّا نعلم وممَّا لا نعلم ... 
وحده يدركُ الأبصار ولا تدركه الأبصار ... وله السمعُ والأبصارُ ويعلم السر والجهر وما يخفى ... ويعلم لغة كلِّ منْ خلقَ مما لا نفقهُ لغته أو تسبيحه ... سبحان الله . 

**************          
                      بقلم :د . كاميليا عبد الفتاح 



تعليقات