الاتِّساقُ الدِّلاليُّ المُبْهِرُ في سورةِ " يس "

تبتدئ سورة يس يقوله تعالى : "يس 1) والقرآن الحكيم 2) إنَّكَ لمِنَ المُرسَلِين 3) على صراطٍ  مستقِيم 4) 0
تبدأ السورة الكريمةُ  بإثبات نبوّة الرسول صلى اللهُ عليه وسلّم 0
وتنتهي بإثبات الإلوهية ،وذلك في قوله تعالى :
" أوَليس الذي خلقَ السمواتِ والأرضِ بقادرٍ على أنْ يخلق مثلهم بلى وهو الخلَّق العليم81) إنماأمرهُ إذا أراد شيئاً  أنْ يقول لَه   كُنْ فيكون 82) فسبحانَ الذي بيده ملكوتُ كلِ شئٍ  وإليه تُرجعون" 83) 0
تبتدئ السورةُ الكريمة بتأكيد المولى سبحانه صدق نبوة رسوله الكريم - صلى اللهُ عليه وسلّم - ويؤكد المولى سبحانه صدق هذه النبوة بأنْ يقسم بكتابه الكريم : " والقرآن الحكيم 2) إنَّك لمِنَ المُرسلِين 3) على صراطٍ مستقيم 4) " 
 نلاحظُ في هذا السياق أنَّ اللهَ سبحانه يقسمُ - على مدار كتابه الكريم - بما خلق ، مثل : الضُحى ، الليل ، الفجر ، الشمس ، النجم الطّارق ، مواقع النّجوم ، ... ، أو يقسم سبحانه بما ينتسب إليه ويصدرُ منه ، وهو القرآن الحكيم - كما في مطلع سورة يس . 
وبينما يقسمُ المولى الخالقُ سبحانه بما خلقَ ، يوجبُ على عباده ألاَّ يقسموا إلاّ  به   ، فيكونُ الحلفُ بغير الله شركاً به . وبهذا التكاملُ تبدو وحدة الوجود ، وتتضحُ الوشيجةُ بين الخالق والمخلوق ؛ فاللهُ يقسم بخلقه ، والمخلوق يقسمُ بخالقه .
** يقسمُ الله بكتابه الكريم على أنّ رسالة الرسول حقٌ ، وأنَّ نبوته صدقٌ ، وأنّه مرسلٌ منْ قِبلِ خالقِه ، لا منْ قبلِ ذاته ، وأنّه على صراطٍ أي منهج مستقيم ... هذا المنهج المستقيم هو كما تقولُ الآية  : " تنزيلِ العزيزِ الرَّحيمِ " 5)  وهو القرآن الكريم ذاته ... أي أنّ الله تعالى يقسمُ بكتابه الكريم أنّ رسوله حقٌ وأنّه على استقامة ومنهجٍ مستقيم هو هذا القرآن  القرآن الكريم .
ويصفُ الله سبحانه الغاية من النبوة والرّسالة ، والغاية من الرُّسل ، والهدف الذي أُرسِل الرسول منْ أجله ، إنَّه الهادية ، والتذكير ، والإنذار والتبشير ، الوعد والوعيد ، إنّ الغاية هنا هي نبشُ الفطرة السليمة لتذكيرها بما جُبِلتْ عليه منْ الاعتراف بالألوهية والرسل ، والعقيدة ، وما يتعلّقُ بها منْ مُسلّمات وثوابت ... يقولُ تعالى واصفاً رسالة الرسول ، ومهمّته :
" لِتُنْذِرَ قوماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُم فَهُم غافِلُون " 6)
ياللروعةِ في الخطابِ القرآني : يأمرُ اللهُ رسولَه بأنْ يكونَ نذيراً لقومٍ طُبِع على قلوبهم وعلى قلوبِ آبائهم ؛ فَهُم غافلون ! منْ همُ الغافلون ؟
الغافلون همُ الطرفان معاً : الآباءُ وأبناؤهم ... !  بلْ إنّ الله يصفهم في الآية التالية بأنّ أكثرهم لا يؤمنون ... يقولُ تعالى : " لقدْ حقَّ القولُ على أكثرِهِم فهُم لا يؤمنون" 7 )

 إذن  ما هي الحكمةُ الإلهية في إنذارهم  بينما هم مُنحدرون منْ أصلابٍ جاحدة عمياء عنيدة في العتوِ والكبرياء والاستعلاء على الحق؟ ! ما الحكمةُ في دعوتهم إلى الهُدى بينما أكثرهم  لا يؤمنون ، ولن يكونوا مؤمنين  ؟ نعتقدُ أنّ الحكمة في ذلك هي إقامة الحُجّة على هذه الأكثرية المعرضة عن الهُدى ، وتنشيط بصيرة الأقلية القابلة للهداية  ، كما نعتقدُ أنّ إرسال الرُّسل والأنبياء من موجبات الألوهية التي أوجبها المولى على ذاته ، وجعلها حقَّا من حقوقِ عباده عليه .
 وفي هذا المعرضُ يصف اللهُ تعالى  قدرته اللامتناهية  على الإحياء ، وقدرته على الإماتة 000 ، قدرته على الإهلاك ، وقدرته على الإنماء ... ، قدرته على العقاب ، وقدرته على الإثابة ... إنها قدرته سبحانه على الإمساك بالوجود وإدارته في الوجهة التي يريد 0 
 لنتأمّل قدرته على العقاب والإماتة والإهلاك في قوله تعالى وهو يصف عقابه لفئة المُعرضين عن عبادته :
" إنَّا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقانِ فهُم مُقْمَحُون " 8) وجعلنا منْ بينِ أيدِهم سدَّاً ومنْ خلفِهم سدَّاً فأغشيناهُم فهُم لا يبصرون 9) وسواءٌ عليكَ أأنذرتَهُم أم لمْ تُنْذِرهُم فهُم لا يؤمنون " 10) ... إذا تأمّلنا   وضعية  الآيات التي تصف هذه الطائفة لاحظنا أنّ الآيات التي تصفُ عذابهم وعقاب الله لهم -  الآياتان رقم 8 ،9 -  تقع بين آيتين تؤكدان محالية إيمانهم ، ونعني الاية رقم 7) : " لقد حقَّ القولُ على أكثرِهم فهم لا يؤمنون " والآية رقم 10 ) : " وسواءٌ عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم فهم لا يؤمنون ! وهكذا كانت هاتان الآيتان باحتوائهما الآيات التي تصف العذاب تُمثِّلان الحصار الذي ضربه الكافرون على أنفسهم : حصار الكفر  ... حيث بدتْ الآيتان وكأنهما دائرةٌ تحيطان بالآيات التي تتوسّطهما ، وكأنّ الله تعالى يطرح صفة  هؤلاء الجاحدين ، ثم يصف عذابهم ، ثم يصف مرة أخرى صفتهم التي أودتْ بهم إلى هذا المصير تأكيداً منه سبحانه أنهم لم يُظلموا ولكنهم كانوا ظالمي أنفسهم في مبتداهم وأخراهم رغم قطع الحجة عليهم !
ولنتدبّر التدرُّج في العذاب وتواليه في دوائر تثير الرهبة والمخافة في النّفس : جعلنا في أعناقهم أغلالا ، هذه الأغلال وصِلتْ بالأذقان ، ومن ثمّ فهم مُقمحون مقيدون ذليلون ... ثمّ جعل الله من بين أيدي هؤلاء سدا ومن خلفهم سدأ ، ثم غشَّى أبصارهم فأعماهم فوق ما هم فيه من العماء - وهذا مصاقٌ لوعيده سبحانه " منْ كان في الضّلالة فليمدّد له الرحمنُ مدّا " - وتأتي الآية التالية مترتّبة على إصابة هذه الفئة بالعماء ، تأتي الآية لتؤكّد الطّمسَ على قلوبهم ومحالية اهتدائهم : " وسواءٌ عليك أأنذرتَهم أمْ لم تُنذرهم فهم لا يؤمنون " ... والدلالة هنا منطقية منبنية على عمائهم ، وهو ليس ككلِ عماء ، إنّه العماء الذي ضربه اللهُ على أعينهم ، بل على قلوبهم .
ثمَّ ينتقل الخطابُ القرآني إلى فئةٍ أخرى لها سياقاتٌ مغايرة ، ولغة مغايرةٌ ... همُ المؤمنون المُهتدون ... يقولُ تعالى لرسوله - وكأنه يعده بنفاذ رسالته ونجاحها في محيط آخر حتّى لا ييأس من جدوى الدعوة ، وحتى لا يظن انغلاق كل القلوب دونها ... يقول تعالى لرسوله وكأنّه يوجّهه إلى الوجهة التي يجب أنْ يوليها وجهه وهي القابلين للهداية ، المُهيأة نفوسهم لقبول الحقّ  : " إنّما تنذرُ منْ اتّبع الذِكرَ وخشيَ الرحمنَ بالغيبِ فبشِّرهُ بمغفرةٍ وأجرٍ كريمٍ " 11)
إنَّ الصفات التي وُصفتْ بها هذه الفئةُ الجديدة تبدو بمثابة الشروط الواجبُ توافرها فيمنْ يتوجّه إليهم الرسول بالوعد والوعيد ، والتذكير بالحقِ ، هذه الصفاتُ / الشروطُ هي : اتباعُ الذِّكر ، خشيةُ الرَحمن بالغيبِ ! ونتساءلُ هنا : هل تشتمل هذه الفئة على هذه الصفات وهذه الدرجة من الهداية ؟ وإذا صحَّ هذا الأمرُ ففيمَ دعوتها إلى الاهتداء ؟ أم أنَّ المقصود بهذه الصفات  ما سوف تكونُ عليه هذه الفئة إذا ما تم دعوتها إلى الإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ؟
الدِّلالة التي تتسقُ مع السياقُ والأقرب إليه هي أنّ الله تعالى يأمر رسوله بدعوة منْ هم على وضعية صحيحة  والذين هم على مبدأ التوحيد ، مؤمنين بالله الواحد ، يخشونه بالغيب ، مُسلّمين بالآخرة والحساب والعقاب ، وهؤلاء يسهل اهتداؤهم ، ومستعدةٌ نفوسهم لدعوة الإسلام ، والاعتراف بنببوة محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - وهؤلاء قايلين للهدى والإيمان والإثابة .
ومثلما وصفت هذه الفئة بصفتين ، جاءتْ إثابتها في مسألتين . فقد وصف أصحابها  بأنهم : 1 - يتبعون الذكر ، و2 - يخشون الرحمن بالغيب ... فكانت إثابتهما في اثنتين : 1 - المغفرة ، و2 - الأجر الكريم . ولنىحظ الإعجاز في هذه الثنائيات : إنّ اتباعهم الذكر الآتي من الله استتبع مغفرة الله لهم ، كذلك كانت خشيتهم للهِ بالغيب سببا في أن ينالوا الأجر الكريم القادم من الغيب الذي يؤمنون به ... ما أروع هذا التناغم وهذه الهارمونية  في الدلالات التي لاتبدو بهذه السيميائية المعجزة إلاَّ بالتدبُّر ... لاتبدو فسيفسائية الوضعية والتكوين ، والتوالي إلاَّ بهذه القراءة والتفحّص والبحث المّصّدق بأنَّ هذا الكتاب منْ لدُن  حكيمٍ عليم ، لا ترى في كتابه أو في خلقه منْ تفاوتٍ أو منْ فطور ، وإذا لم تصدق ونجذبت إلى التحدّش الآلهي واستجبت لأمره بأنْ تُرجِع البصر مرة ومرة ، سوف يرتدُ إليك البصر خاسئا وهو حسيرٌ يجرر أذيال العجز الإنساني ، وجهالة القامة الإنسانية التي لا بد لها منْ أن تتطامن قبالى صنع الله ! كيف لا تفعل وهو خالقها ومدبّر أمرها إحياء وإماتة ... سبحانه عمّا يصفون . 
                                                   
                            بقلم : د . كاميليا عبد الفتاح 

تعليقات