الأنثى التي تقبَّلها اللهُ بقبولٍ حسنٍ : رسالة إلهية إلى كل امرأة

*** وصف الله - سبحانه وتعالى - وضعية المرأة في العصر الجاهلي في الجزيرة العربية بما يفسّر الميراث المتراكم لهذه الوضعية عبر التاريخ الإنساني القديم ، وذلك في قوله تعالى -سورة "النّحل - وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسودَّا وهو كظيمٌ 58 ) يتوارى من القومِ منْ سوءِ ما بُشِّر به أيمسكُهُ على هُونٍ أمْ يدُسُّهُ في الترابِ ألا ساءَ ما يحكمُون "59) 

... لقد صوّر اللهُ - سبحانه - في هذه الآيات الكريمة مدى إحساس الرّجل العربي بالسوء والعار والهمّ إذا رُزِق بالأنثى ، وصف إحساسه بهذا العار وصفا دقيقا يرصد تصاعد أزمته النّفسية وتدرجها منذ حدوثها وحتّى نزوعه إلى قتل الوليدة الأنثى ؛... فالرجل المُبتلى بإنجاب الأنثى يلحقُ به مايلي - وفق الوصف القرآني الدقيق - :

اسوداد الوجه كمداً وغمّا وهمّاً ; ثم الاستخفاء من القوم والأهل خجلا وعاراً -؛ ثم المراوحة مابين اختيارين :وأدِ هذا الهمّ -الماثل في البنت - ، أو الإبقاء عليها على كراهة ومضض .

*** وقد سجَّل المولى - سبحانه - في هذه الآيات نفسها انتصاره لكرامة هذا المخلوق - الأنثى - وحقِّه في الحياة ، وعدم أحقيّة أي طرفٍ آخر في الاستحواذ على هذه الحياة ، والهيمنة عليها أو استلابها ، أو الحكم عليها بالإفناء ، ... انتصر المولى لكلِّ هذا الحقوق في قوله في ختام الآية :
"ألا ساء ما يحكمون " ... ;وبذلك حكم سبحانه على هذا التوجه الجاهلي بالسوء ، وسجَّل هذا الحكمَ في كتابه الكريم ليكون معيار الحكم على أيّ توجّه جاهليٍ مماثلٍ له في النسق الفكري والنفسي في أيّ عصر - وليس فقط العصر الجاهلي - وفي أيّ بقعة في الوجود ، ... وليس فقط في الجزيرة العربية ...


**إنَّ هذا الوصف الإلهي بالغ الدّقة ، إنه اتّهامٌ بالجاهلية لأي نظرة دونية مماثلة للمرأة ، اتّهام بالجاهلية لأي تهجُّمٍ وعدوان واستعلاء عليها ، وأي شعور - أحمق شريرٍ بأحقيّة امتلاك حياتها التي لا يمتلكها إلاّ منْ خلقها . لا يمتلكها إلا َّ الله بحوله وطوله وعظمته وقدرته الخالقة التي ليست إلاّ له ...

*** هذه الحياة - حياة الأنثى - لا يمتلكها في الواقع - ولا يستطيع أنْ يمتلكها - ، إنسانٌ مخلوقٌ مثلها ، تجري عليه مسبّبات الفناء والعجز والضعف . يصيبه المرض والوهن مثلها ، وينتظر الموت - تماما - مثلها ، فمنْ أين له هذا الكبرياء المضحك ، ومن مَنَحَه حقّ الاستبداد بحقها في الحياة ؟ !

***هذه الوقفةُ الإلهية الجليلة المُدافعة عن المرأة باعتبارها مخلوقا من مخلوقات الله لم تكن الوقفة الوحيدة في القرآن الكريم المنتصرة للكرامة الإنسانية للمرأة ... هناك مواقف - مثيلة لها - شديدة الجلال والخطر ، بالغة الحنوِّ الإلهي ، بالغة الدلالة على عظمة هذا الإله وعدله ، وكونه لا يفرق بين مخلوقاته في الحقوق : حق الحياة ، حق الإكرام ، حق الرزق ، حق الحرية ... ، ومنْ ثم كان من العدل ألا يفرق بين مخلوقاته هذه في الواجبات والتكاليف .

***من المواقف الإلهية الجليلة في المضمار ذاته موقفه سبحانه مع امرأة عمران كما تقصُّها علينا آيات سورة " آل عمران " يقولُ تعالى :

" إذْ قالت امرأةُ عمرانَ ربِّ إنِّي نذرتُ لكَ ما في بطني مُحرّراً فتقبّلْ منِّي إنَّك أنتَ السّميعُ العليم 35) فلمَّا وضَعَتْتها قالتْ ربِّ إنّي وضعتُها أُنثى وليس الذَّكرُ كالأُنثى وإنِّي سمّيتُها مريمَ وإنّي أُعيذها بك وذّرِّيَتُها من الشيطانِ الرّجيم " 36 )

***لقد كانت امرأة عمران امرأة صالحة ، عابدةٌ قانتةٌ لله ، نذرت لله مولودها من قبل أن تلد ، وأرادت بصدقٍ أن يكون مولودها - وكانت تظنه ذكرا - في خدمة العبادة و بيت العبادة ، وأن يكون كائناً عابداً شاكراُ لله بعبادته ، وكأنّه في حدّ ذاته كلمة شكر مجسّدة .

ولكنها فوجئت بإنجابها أُنثى - على غير ما قدّرت وأرادت - ولكن... ولأنها أمٌ ، ولأنها مؤمنة لم يسودّ وجهها همّا وغمّا ، ولم تراوحها نفسها بأنْ تدس مولودها في التراب - كالرجل الجاهلي - ، ولم تتوار من القوم ، ولم ... ، ولم ... ومع ذلك انكسرتْ نفساً وأملاً ورجاء في أنْ تكون هذه الأنثى كلمة شكرها لله ، وأنْ تستطيع هذه الأنثى أنْ تحمل عبء المهمة الجلل التي أرادتها لمولودها : الانقطاع لعبادة الله وخدمة عابديه وبيت عبادته ، إذ كيف يتيسّر لهذه المولودة كلُّ هذا وهي محض امرأة ، والمرأةُ لها وضعيةٌ راسخة عبر التاريخ وعبر العقلية الإنسانية ، وضعية الضّعف والوهن والعجز والعزوف عن هذه الأمور الجلل ، وهناك أحكام مسبقة تحكمُ عليها بالفشل في هذا المجال ، وتسخر منها إنْ هي ولجته ...؟!

*** لقد تجسَّد انكسار النفس والأمل في امرأة عمران في ما ساقه اللهُ على لسانها في قوله تعالى :

" ربِّ إنّي وضعتها أنثى وليس الذّكرُ كالأنثى "

نلاحظ ما يبدو في هذه العبارة من مشاعر الإحباط والإحساس بالعجز وكسوف البال وقلّة الحيلة ... إنَّ امرأة عمرانتبدو وكأنّها تعتذر لله تعالى في قولها : " ربِّ إني وضعتُها أُنثى "كأنها تعتذر عمّا سيبدر منها من تقصير في وفاء نذرها بأن يكون مولودها لله محررّا . كما أنها تفسر هذا الاعتذار وتبرّر تقصيرها المؤكد في وفاء النذر في قولها موضحة : 

" وليس الذّكرُ كالأُنثى " . 

ثمّ تعلن اسم مولودتها بعد أن أعلنتْ هويّتها الأنثوية ، وذلك في قوله تعالى - :
" وإنّي سمّيتُها مريمَ وإنّي أُعيذُها بك وذُرّيتها من الشيطانِ الرّجيم " 

*** لقد استدعى إنجاب الأنثى خوف امرأة عمران من الشيطان على هذه المولودة ، فارتكنتْ إلى ركن عتيدٍ تحمي به مولودتها وذريتها من هذا الشيطان . هذا الركن العتيد هو الاستعاذةُ بالله تعالى .وهنا نتساءل : هل كان من بواعث شعورامرأة عمران بخيبة الأمل لإنجابها أنثى خوفها من الشيطان على هذه الأنثى ؟

*** وهنا يتجلّى إكرام الله سبحانه لمنْ خلق ... يتجلّى إكرامه للمرأة وحنوّه عليها ... لقد حنا على امرأة عمران ، ورحم ضعفها وشعورها بخيبة الأمل ،... وجَبر خاطرها ، وفي الوقتِ ذاته رحم مولودتها ورحم ضعفها ، وجبر كسرها المتوقّع- بصفتها أُنثى - وحقّق فيها أملا تراجع بعد أن اصطدم بهويّتها الأنثوية ... تجلّى هذا الحنو الإلهي وهذا الإكرام والتقدير في ما سمّاه سبحانه في آياته بـ :

* التقبّل الحسن .

* الإنبات الحسن .

يقول تعالى - سورة آل عمران " فتقبّلها ربُّها بقبولٍ حسنٍ وأنْبتَها نباتاً حسناً ... "الآية 37

** لقد تقبّل اللهُ هذه المولودة ... تقبّلها اللهُ قبولا حسناً ، فكان تقبّله إكرامٌا لهوية الأنثى المنبوذة المكروهة ، التي لا يُرجى منها خيرٌ ، ولا يُدفع عنها - ولا منها - شرٌ ... لم يكتف سبحانه بأن يقرر القبول فقط ، بل وصفه بالقبول الحّسنِ إكراما وإعزازا وجبر الخاطر المنكسرٍ في الأم - والإبنة أيضا التي قد تتوارث هذا الانكسار والتراجع والخزي من كونها أُنثى - .... وبذلك القبول الحسن تمّ تأمين قلب امرأة عمران بأنها لم تُنجب مكروها منبوذا .


**بقيتْ حمايةُ هذه الأنثى التي خشيت عليها أُمها فأعاذتها وذريّتها بالله من الشيطان الرجيم ، وقد استجاب اللهُ هذه الاستعاذة وأعلن استجابته في قوله : " وأنْبتها نباتاً حسناً " أي أنها شبّت ونمت في حفظ الله وأمنه وفي منأى من عبث الشيطان ومصايده .

*** وبهذا التدبيرُ الإلهي العظيم ، وبهذا الحنوّ الإلهي الجليل الحكيم دفع اللهُ عن صدر امرأة عمران - كما دفع عن كل أنثى - همّين - :

الأول : همّ الخزي من طبيعتها ومظنّة أنّ هذه الطبيعة في حدّ ذاتها محل عارً ومذلةٍ وخزيٍ . فكان تقبّله لمريم إعلاء لشأن الأنثى ، وهدمٌ وإلغاءٌ لكلّ نظرةٍ جاهلية ، وكل ردِ فعلٍ جاهلي يتلقاها في الحياة . وكأن هذا القبول الحسن الذي تلقى به اللهُ مريم معارضةً إلهية سافرة متعمدّة لكل منْ كان يسودُّ وجهه وهو كظيم حين يُرزقُ الأنثى ...

إنّ التقبّل الإلهي الحسن لمريم يبدو وكأنّه التاريخ الحقيقي لميلاد المرأة : ميلادها المادي : بمعنى مخاضها من رحم أمّها ، وميلادها المعنوي بمعنى : إعلان شرعية وجودها الكريم في كنف رعاية الله ، ومن ثم أحقّيتها في العيش الكريم في ظلّ أنعم الله دون أن تكون هويّتها - في حدّ ذاتها لعنةً تطاردُها ...

الثاني : همّ الأمن والسلامة في الحياة : وقد حصر اللهُ - سبحانه - أمنَ المرأة وسلامتها في طريقٍ واحدٍ هو : الالتجاء إليه والارتباط به ، تماما كما أنبت مريم إنباتا حسنا ، فتكونُ علاقة المرأة بربّها وعبادتها له منجاها وملجأها - ومنجى وملجأ كل مخلوق عامّة - من الشيطان الرجيم .

** إنّ في قصة مريم - عليها السلام - مايؤكد أنّ الأنثى عبءٌ وهمٌّ يصيبُها هيَ أولَ منْ يصيب ، ويمسُها هي قبل أنْ يمسَّ منْ حولها ... وإن في هذه القصّة ما يؤكدُ فضل اللهِ عليها وإكرامه لها بما غيّر تاريخها وغيّر النظرة التي كانت تحيطُ بها في التاريخ الإنساني قبل الإسلام .

* ** كيفية التنشئة الإلهية لمريم :

إنَّ التنشئة الإلهية لمريم تتضح مراحلها في قوله تعالى :

" فتقبّلها ربُّها بقبولٍ حسنٍ وأنْبتَها نباتاً حسناً وكفَّلها زكريا كلّما دخل عليها زكريّا المحرابَ وجدَ عندَها رزقاً قالَ يامريمُ أنَّى لكِ هذا قالتْ هو من عند الله إنّ اللهَ يرزقُ منْ يشاءُ بغيرِ حسابٍ " سورة آل عمران الآية 37

إذن مراحل تنشئة مريم وفق رعاية الله لها هي :

1- تقبّل ربُّها لها بقبولٍ حسنٍ

2- إنباتَه لها إنباتاً حسناً

3- العهد بها لزكريا - عليه السلام ... يكفلها ويتعهدها بالتربية الدينية القويمة...

***إن هذه المراحل تطالعنا أيضا في قوله تعالى في موضع آخر في السورة ذاتها :

" إذْ قالت الملائكةُ يا مريمُ إنّ اللهَ اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين " الآية 42 / آل عمران

** تتضمن الآية الكريمة ثلاث مراحل بدورها ، وهي :

1 -مرحلة الاصطفاءُ الأوّل ...

2 - مرحلة التّطهير ...

3 -مرحلة الاصطفاء الأخير ...

أولا : الاصطفاءُ الأوّل ...

وهي اختيار اللهُ - سبحانه - مريم ... وهي المرحلة ذاتها التي أشار إليها - سبحانه - بقبوله الحسن لها في الموضع السابق من السورة ...

ثانياً : التّطهير ...

وهي مرحلة تناظر وتشابه مرحلة التنشئة التي مهّدها اللهُ لمريم في بيئة صالحة ...، وإنباتها في أرضٍ طيّبة ... في بيت عبادة وطهر ونبوّة ودين ... وهكذا طُهِّرت مريم من كل ما كان يمكنه أن ينال من نقائها وتديّنها وتبتلها ... من كل ما كان يمكن أن يقتل رجاء أمها في مولودها ... من كل ما كان يمكنه أن يقف عائقا دون أن تحمل مريم - بفضل الله - شرف المعجزة التي أراد اللهُ لها أن تحملها ...

ثالثا: الاصطفاء الأخير ...

هذا هو اصطفاء التحدّي ... فلقد ميّزه اللهُ سبحانه عن الاصطفاء الأول بأن وصفه بأنه اصطفاءٌ لمريم على نساء العالمين ... !

مريم إذن هي المصطفاةُ على نساء العالمين

لما اصطفاها اللهُ سبحانه ؟!

لم يصطفها إلاَّ لورعها وتبتلها في عبادته ، وطهرها ... لم يصطفها إلا لأنها استقامت على صراطه القويم ... وهذه واحدة من الرسائل الإلهية الجليلة إلى النساء في قصّة مريم ...


*** إنَّ الله سبحانه وتعالى يرسمُ لكل أنثى النهج المستقيم الذي يمكنها من خلاله أنْ تتبوأ به المرتبة العالية الشريفة في الدنيا والآخرة ، وأنْ يخلدَ به ذكرُها خلودا طيّبا ... هذا النهج المستقيم الوحيد الذي ليس لها غيره هو :

الاستقامة الدينية والتّثبّت في طاعة الله بما يحفظ المرأة ويحفظ دينها ويبرئها من السوء فإذا تمسكت المرأة بهذا النهج الإلهي كانت في منجى من الشر والسوء ، واستحقت عند ربها المكانة ، واستحقت في حياتها الدنيا الرفعة والسمو ، بل وعلو القامة على غيرها من النساء ...


*** لقد كانت استقامةُ مريم هي جوازُ مرورها الوحيد لتحمل شرف المعجزة الكبرى التي اختارها الله لها ، وهي : أن تكون أُمَّا للمسيح عيسى - عليه السلام - ... أنْ تكون أمّا له بلا أبٍ يشاركها هذا الحدث ويتحمل معها تبعاته ... لقد اختارها اللهُ تعالى لتكون أم المسيح الذي ما يزالُ إلى اليوم مضرب المثل على قدرة الله على الخلق بغير مثال ، قدرته على الخلق من العدم وعلى غير القاعدة التي ألفها البشر... فاندفعوا إلى أن أنكروا سواها- سوى هذه القاعدة الأساسية في الخلق - ناسين أن الله سبحانه هو الخالق الجليل وهو خالق القواعد والسنن يُسيّرها كيف يشاء ... ويخرقها كيف يشاء ... وما خرقُ قاعدةِ الخلق في المسيح عيسى إلا ليستفيقَ خلقُه من غفلتِهم عنه ونسيانِهم عظمته وتجاهلهِم قُدرته ، بل وإنكارهم قدرته على بعثهم يوم القيامة من الموت ، وإحياءِ عِظامهم وهي باليةٌ رميمٌ ...


*** كان عيسى عليه السلام بمثابة التنبيه من الغفوة والغفلة والكِبر والجحود الإنساني ... كان عيسى بن مريم تجسيداً لكيفية خلق آدم من ترابٍ ... من عدم ...بمثابة إعادة تمثيل لكيفية خلق آدم ...

كان التجربة الحية لِمَا لم يره الإنسانُ من الغيوب الماضية في كيفية الخلق ... وكان خلقُ عيسى على هذا النحو كفيلا بإيمان قومه بالله إيمانا عميقا راسخا لأن قدرة الله تجسّدت أمامهم مبهرة مفحمة ... جليلة ... تقشعرُ لها الأبدان ، ولكن ... منهم من آمن وثبت ، ومنهم منْ جادل وارتاب وشكّك ، واتّهم مريم بالسوءِ ، ... !!

ومنهم من أدارتْ رأسُه المعجزة فإذا به يخرج بالمعجزة عن هدفها ، وهو : توحيد الله والشهادة له بالألوهية المطلقة فإذا بطائفة تقول بالتثليث ، وتؤلّه عيسى الذي أُنجب أمام أعينهم ، على مرأىً منهم ، ومرّ بما يمرُ به كل طفل من البشر !! إذا بهم يؤلِّهونه وينسبون إليه قدرات وخوارق متناقضة عجيبة مفترية هو منها - ومنْ قائليها براءٌ ...




** لقد كانت " مريم " الرّوح والرّحم اللذين هيأهما اللهُ تعالى واصطفاهما لهذه القضية الكبرى ، وهذه الإشكالية العُظمى غير المكرورة في التاريخ الإنساني ... وهُنا نتفهم الحكمة الإلهية العظيمة في نوع التربية والتنشئة التي أرادها الله لمريم و يسّرها لها ... كان لا بد من تربيةٍ دينيةٍ قويمة ، كان لابد أن تخضع مريم لانصهارٍ كلّي في العبادة ، وانقطاعٍ كامل للطاعات الدينية بما يُطهّرها من الغايات الدنيوية العابرة الرخيصة ، وبما يجعل ولاءها لله صلباً شديد الصّلابة ، وبما يجعل قدرتها على البذل في سبيله قوية عالية غير قابلة للمساومة أو الاهتزاز أو التردد أو...

الاحتمالية ، وذلك لأنّ مريم سوف تواجه بعد الاصطفاء الأخير :

1- عبء اصطفاء الله لها ... وقد أبلغها بذلك جبريل عليه السلام الذي تجسد لها بشراً سويّا .

2- رهبة مواجهة الملك الكريم - جبريل - ، والاضطراب من هذا الحدث ، و... الاستعاذة بالله من رهبة الموقف ... تماما كما أعاذتها أمها عند ولادتها !

3- عبء حَمْل الجنين - عيسى المسيح - دون زواجٍ ، ودون قدرة على إخفائه أو إثبات طهرها وبراءتها ممّا يتبعه الحمل بدون زواج ... كلُّ هذا الهمّ العظيم وهي " مريم " ... القانتة العابدة العفّة التي لم يكن يخطرُ ببالها لحظة أنْها ستتعرّض لهذه التجربة العظيمة وهذا الابتلاء الشديد الذي يشكّك في أميز خُلُقٍ يميّزها : العفّة والطّهر ! فسبحان الله الذي اختبر إيمانها به وقدرتها على الصبر لأجله فابتلاها في أثمن ما تملك في حياتها : فضيلتها وشرفها وعفّتها ... حيث تتعرّض للاتهام في كلّ ذلك والتّشكيك فيه في سبيل الله !!

4- عبء الولادة وحيدة مستترة ... مجهدةً ... ضعيفةً ... خائفةً ... مستخذية مهمومة تتمنى الموتَ وتفضله على مواجهة الاتهام في فضيلتها ...

قال تعالى - في سورة مريم - : " قالت يا ليتني متُّ قبلَ هذا وكنتُ نَسيَاً منسيَّا "الآية 23

*** لكنّ الله الذي اصطفاها واختبر معدنها بهذا الابتلاء العظيم ، وحمّلها هذه الرسالة الجلل لم يكن ليتركها دون تثبيتٍ ودعائم توطّد أركانها وتعيد إليها استقرارها النفسي وثباتها الديني ... لم يكن الله ليتركها ويتخلّى عنها وهو العظيم الحنون الأقربُ إلينا من حبل الوريد ... فدّعمها اللهُ بهذا الدّعم الجليل منتقلا بها من مرحلة إلى مرحلة من مساندته ... كما يلي :

1- أوحى اللهُ إلى مريم أنها لا تحمل جنينا تقليديا ... ، بل تحمل معجزة عظمى ورسالة إلهية كبيرة . قال تعالى- سورة مريم -

"فأجاءها المخاضُ إلى جذع النخلة قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنتُ نسياً منْسيّا23 ) فناداها منْ تحتها ألاّ تحزني قد جعلَ ربُّكِ تحتَكِ سرِيَّا 24 ) "

والسّريّ - لغةً - هو العظيم الجليل مكانة ... وهو المسيح ... ويختلف المفسّرون فيمن ناداها من تحتها : أهو عيسى عليه السلام أم جبريل عليه السّلام ... والفائدة في الحالين واحدة وهي :
أن الله دعّم مريم برسالة من لدنه حتّى تثبت فيما هي مقبلةٌ عليه ... ونلاحظ حكمة الله في تثبيت مريم من هذه الجهة قبل حدث الولادة وذلك حتى تستطيع أن تمر بهذا الحدث بسلام ! وحتى تتثبت من صدق المعجزة فتواجه قومها بقوة !

2 - أمدّ الله مريم بما تحتاجُ إليه ساعة المخاض : القوة والغذاء فألجأها بوحيه إلى جذع نخلة قوية لتتمسك بها وتشدّ بها قامتها حتى تستطيع الولادة ، وكأنها تستعيض بإمساك الجذع عن المساعدة البشرية التي كان من المفترض أن تتلقاها في الوضع الطبيعي ... ثمّ أوحى إليها أن تأكل من رطب النخلة ذاتها حتّى تُعوّض ما فقدت من عافية : قال تعالى :

" وهُزِّي إليكِ بجذعِ النخلةِ تُساقِطُ عليكِ رُطباً جنيَّا فكُلي واشربي وقرّي عينا " سورة مريم / الآية 25

3 -أراد اللهُ سبحانه أنْ يجنّب مريم ذلّ الكلام مع قومها المُتشكّكين في براءتها ، والمُتهمين لها في صدقها وفضيلتها ... أراد اللهُ الإكرام للسيدة مريم ؛ فهو يعلم - سبحانه مدى ضعفها في هذه اللحظة ومدى عجزها عن إثبات براءتها وصدق المعجزة التي تحملها بين يديها ... أراد أنْ يدفع عنها ما لا تطيق وأن يسمو بها عن رخيص ما سوف تسمع ... كما أراد أنْ يثبت معجزته بما يحقّق الهدف المرجو منها . فأنطقَ وليدَها " المسيح عيسى" بما يُعد إثباتا للمعجزة المثبتة في حد ذاتها : 


أي خلق عيسى بغير أبٍ ، فقد جعل اللهُ قوم مريم يعاينون بأنفسهم معجزة أخرى تؤكد لهم معجزة خلق عيسى بغير أبٍ فلمّا ارتابوا في مريم وشككوا فيها أنطق اللهُ وليدها ليؤكد المعجزة من جهة ، وليثبت طهرها من جهة أخرى قال تعالى - سورة مريم :

" فكُلي واشربي وقرّي عينا فإمّا ترينّ من البشر أحدا فقولي إني نذرتُ للرحمنِ صوماً فلنْ أُكلِّم اليومَ إنسيّا 26 ) فأتتْ به قومَها تحمله قالوا يا مريمُ لقد جئتِ شيئاً فريّا 27) يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأَ سوءٍ وما كانتْ أُمُّكِ بغيّا 28) فأشارتْ إليه قالوا كيف نُكلِّمُ منْ كانَ في المهدِ صبيّا 29) قال إنّي عبدُ اللهِ آتاني الكتابَ وجعلني نبيّا 30)






*** لقد كرّم الله مريم وأثابها على عمق إيمانها ، وعلى طهرها ، وصبرها على طاعته ...، و... ، و... لقد كرّمها الله وأثابها وخلّد ذكرها بما لم يسبق مع أيٍّ من نساء العالمين :

1 - خلّد اللهُ الذكر الطيّب لمريم وخلّد دفاعه عنها ، بما يعدُ تكذيبا دائما لكل كلمة سوءٍ قِيلت فيها ،وذلك بوصفه لها في كتابه بأنها : " التي أحصنتْ فّرْجها " وقد خصّها وحدها - دون نساء العالمين بهذه الصّفة وهذا الوصف ، و يكفي في تبرئة السيدة مريم أنها لا تُذكرُ في القرآن الكريم إلاّ بهذه الصّفة ، فضلا عن وصفه لها بأنّه اصطفاها وطهّرها ...

2 - نسبة المسيح عيسى إليها ... فهو يُذكر في القرآن الكريم دائما بأنّه " المسيح عيسى بن مريم" ...

### فهلْ كانت أحلام امرأة عمران في وليدها ترقى إلى هذه المصاف التي ارتقت إليها مريم باصطفاء الله لها ؟ !

هل كانت امرأةُ عمران -وهي تتمنى على الله مولوداً ذكراً يعبده ويخدم بيت عبادته - تتخيّل ولو للحظة أنْ تكون مولودتها الأنثى على مثل هذا الفضل ومثل هذه المكانة من الله ... أنْ تكون على مثل هذا القدر من خلود الذّكر الطيّب والاقتران بواحدةٍ منْ أعظم المعجزات الإلهية في تاريخ الإنسان؟

## هل كانت امرأة عمران وهي تناجي ربّها ذليلة الخاطر ، مكسورة الحلم ، معتذرة :

" ربِّ إنَّي وضعتُها أُنْثَى وليس الذَّكرُ كالأنثى "

هل كانت امرأةُ عمران تعلم مدى الفضل الذي ستحظى به مريمُ بينما كانتْ تردد متألّمة حزينة :

" ربِّ إنّي وضعتُها أُنثَى " ... أنثى ... أنثى

"و ليس الذّكر كالأُنثى " ... الذكرُ ... ليس كالأنثُى ...

هل كانت تعلم المُرتقيات التي سترتفع إليها مريم بفضل اللهِ ، وبأنّها - من خلال كونها أنثى - ستكون موضع معجزة إلهية جليلة الخطر في تاريخ الخلق ؟

لم تكن تعلم ... ولكنّ الله وهو يسمع نجواها و... شكواها كان يدبّر أمره ويعلم ؛ ولذلك قال سبحانه :

" واللهُ أعلمُ بما وضَعَتْ " ... ***

### وكأنّ الله سبحانه قد أجاب على امراة عمران في كلّ ما قالت ... ولكنّ إجابته عليها كانت بموقفٍ عملي هو : دفعه لمريم لتكون موضع معجزته العظمى ... وكأن الله سبحانه يلغي هذه التفرقة التي أشارت إليها امرأة عمران بين الذكر والأنثى ، يلغي هذه النظرة المُستخذية إلى الأنثى ، ويثبتُ إمكانية أن تحوز الأنثى من فضل الله ما يحوزه الذّكرُ ... بلْ وربما أكثر منه ... ولكن وفق شروط وبرنامج إلهي ساقه اللهُ إلينا في قصة مريم :

*** البرنامج الإلهي هو : الإيمان والطّهر .

إذا تمسّكت المرأة المسلمة بهذين الشرطين اللذين تضمّنهما البرنامج الإلهي لإعداد مريم حازت من الله على الفضل العظيم بما تتفوق به على غيرها من خلق الله ذكراً كان أو أُنثى ...

وكل هذا ينسجم مع ما وعد به اللهُ تعالى من الأجر كل منْ يعمل صالحا من ذكر أو أنثى ... دون تفرقةٍ ... دون طبقيّة ... دون مقارنة ... فالعلامة الفارقة لدى الله - سبحانه - ليست الذكورة والأنوثة ، وليست الغنى أو الفقر ، ولا وجاهة النسب ووضاعته ... ليست إلا التقوى والصدق في الإقبال عليه ، والدعوة له ، والعمل من أجل رضائه ، والصبر على المكروه لأجله ... وقد كان كل ذلك موفورا ناصعاً في " مريم " فحازت على الفضل العظيم ...
               ************************

                    بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح







                                             








                     





تعليقات