الصندوقُ الأسود : رحلة تأمليّة في شهادة الجوارح يوم القيامة


*** خلق الله الأنفس وأخذ عليها ميثاقها : توحيده وعدم الشرك به ... ، توحيده وتنزيهه ، واتخاذ الحياة الدنيا طريقا لعبادته وشكره وتسبيحه .
** هذا العهد والميثاق مطبوع في روح الإنسان ومطبوعٌ في جوارحه ، وهو الشاهد عليه يوم القيامة ... هذا الميثاق هو البرنامج الإلهي المغروس في الإنسان لتذكير الفطرة  وتدعيمها  وتثبيتها في مواجهة شراسة الغرائز وفتون الشيطان ومغويات الحياة الدنيا .

** هذا العهد والميثاقُ هو الجانبُ النورانيُ في الإنسانِ ، إنّه القوّة التي تُوقظُ النفس اللّوامة وتجاهد الأمّارة بالسوء ، إنّه المددُ الإلهيُ الذي يستنفر في الإنسان إحساسه بالخزي والندم والحسرة بعد المعصية ...  وهو الذي يوليه جهة التوبة والنجاة .

** إنّ عهد الله مع الفطرة الإنسانية ساعة الخلق  عهدٌ فعّال نشطٌ  في تكوين الإنسان طيلة حياته ... ؛ يتصارع مع كل ما من شأنه أن يضعف تأثيره ... ويتجلّى هذا الصراع في ملامح الإنسان  : فالإنسانُ الذي تتغلب فطرته الخيّرة على دوافعه الغريزية  ومغريات الحياة ووساوس الشيطان تتواثبُ في ملامحه أنوار الرضا والسكينة والأمن النفسي والسعادة الغامضة  التي ربما لا تتفق مع وضعيته الاجتماعية المادية المتواضعة وحاله المادي  المرهق  ، وسائر عذاباته الأخرى ... ؛ ذلك أنّ زخّات النور والرضا والألق في ملامحه الخارجية ليست إلا انعكاسا للنور الداخلي المنبعث من روحه وفطرته النشطة التي استطاعت تغليب ميثاق ربّها في الصراع الدنيوي وابتلاءات الحياة ...


وهنا تبدو أنوار الملامح وكأنها أنوار ابتهاج الروح بانتصارها في رحلة الحياة ... تبدو هذه الأنوار وهذه الوضاءة في الوجه وكأنها أنوار الاحتفال بالعيد التي يطلقها الأطفال ابتهاجا بقدومه ... فهي كذلك أنوار تطلقها الروح ابتهاجا بفوزها وترحيبا بلقائها ربّها وإعلان نجاحها في الاختبار الإلهي لها في الحياة الدنيا .




** هذه الوضاءة في النفس المؤمنة التي انتصرتْ فطرتها الطيّبة على مغريات الحياة وابتلاءاتها هي المكافأةُ الإلهية لصاحب هذه النفس ... هي التكريمُ الإلهي ، هي بمثابة شهادة التقدير - بتعبيرنا الدنيوي - وشهادة الإجازة التي تُقرّ لصاحبها قدرته على العبور من هذه الحياة الدنيا إلى الآخرة - بأمر الله - بأمنٍ وسلام .

** إنّ كثيرا من الآيات القرآنية تصفُ انبعاث الميثاق الإلهي في النفس الإنسانية يوم القيامة بما يدفعُ هذه النفس دفعا لا إراديّا إلى الاعتراف بالحقِّ بين يدي الله ،  ... من هذه الآيات قوله تعالى - سورة الأنعام  - :

" ولو ترى إذْ وُقِفُوا على ربِّهم قال أليسَ هذا بالحقِّ قالوا بلى وربِّنا قال فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرُون " الآية 30 

 ** يستحضرُ اللهُ ميثاقه  أمام خلقه يوم القيامة ، ويذكّرهم بما فطرهم عليه من التوحيد والحق والاستقامة ... ، ثم يُريهم أعمالهم ، ويُطلعهم على جزاء هذه الأعمال فيُشهدهم على أنفسهم فيشهدون أنهم حادوا عن الطريق المستقيم ، ويشهدون أنهم تجاهلوا هذا العهد الذي كان منجاة لهم ، ويشهدون باستحقاقهم مآلهم ومصيرهم الأليم .


*** إنّ أخذ الله العهد على الأنفس عند خلقها يُفسّر سبب تردد الفعل " يتذكر " في كثير من الآيات القرآنية التي تصور يوم القيامة ومثول العباد بين يدي الخالق ، كما في قوله تعالى في سورة " الفجر " : 
 " وجِئ يومئذٍ بجهنّم يومئذٍ يتذكّرُ الإنسانُ وأنّى له الذكرى 23)  يقولُ ياليتني قدّمتُ لحياتي  24 ) 
 وقوله تعالى في سورة " النازعات " :" فإذا جاءت الطَّامةُ الكُبرى 34) يومَ يتذكَّرُ الإنسانُ ما سعى 35 )



* إنّ فعل التذكُّر في مثل هذا السياق يؤكّدُ أنَّ الإنسان  يستحضرُ تفاصيل سعيه في الحياة الدنيا ، وتفاصيل العهد الذي أخذه عليه الخالق في الوقت ذاته ...
إنّ الذاكرة الإنسانية تنشط في هذا الوقت المهيب وتستحضر أمام الإنسان تفاصيل حياته وخروجه عن الطريق المستقيم  والفطرة المستوية ؛ فيكون هذا التذكر - في حدّ ذاته عقابا إلهيا عجيباً لأنه نوعٌ فريد من العذاب الإنساني ... نوعٌ فريدٌ وغير متكرّر في درجة إيلامه للنفس ؛ إذ يتذكر الإنسان كل ما فعله في الحياة الدنيا ... يتذكر انكبابه على الشهوات ، واستهانته  بتكاليف ربه ، وتشاغله - أو تجاهله - لهذه اللحظة التي سوف يمثل فيها بين يدي خالقه  عاريا من الشفيع والمُساند ... ، عاريا من الجاه والنفوذ والوسطاء ، عاريا من الفتوّة والثراء والشباب ، عاريا إلا من عمله ... فكيف وعمله سيئ يُرديه إلى التهلكة ... ؟ !
 يتذكّر الإنسان كلّ هذا وهو في ساعة الحق  ، حيث لا مجال للتكذيب بالآخرة ، ولا مجال لإرجاء لحظات التوبة ، ولا مجال للتراجع عمّا اكتسبت الجوارح من السوء ... !
*** وليس هذا فقط مبعث ألم الإنسان وعذابه الفريد ساعة الحساب ، بل يتناهب الإنسانَ الألم في هذه الساعة من يقينه التام الآن - والآن فقط -  من هوان الحياة الدنيا وعدم استحقاقها ما بذل فيها  وبذل لها من عمر وشباب وفتوة ومشاعر وفكر ... يوقنُ الآنَ فقط من عدم استحقاق الدنيا  أن  تضيع  الآخرة من أجلها ... !
  *** من هنا يكون فعل التذّكر في هذه اللحظات الجليلة فعلا باعثا على الألم والحسرة والعذاب والخزي ؛ لأنه يوقظ في الإنسان أمرين قاتلين :
                                  - اليقين بوعد الله .
                                  - العجز عن تغيير المصير .

  **  وبهذه الكيفية يكون فعل التذكر في هذه اللحظات لإدانة الإنسان  ، وإشهاد فطرته عليه ، وإشهاد الخلق عليه ، و- من ثمّ - إثبات عدل الله في تقرير مصيره ...
و... إنّ هذا ال " إجراء " الإلهي لهو قمة ما يطمح إليه الإنسان من العدل والحرية والإنصاف في الحكم ممّا لا يجده من الخلق في الحياة الدنيا ، ويجده ماثلا بين يدي الله يوم الحساب ...
** إن استحضار عمل الإنسان في الدنيا يوم القيامة عقابُ إلهي قائمٌ بذاته يوقعه الله على عباده الضالين قبل أنْ يُرديهم ي مآلهم الأخير ، إذ يُريهم اللهُ أعمالهم حسراتٍ ، يُريهم السُّدى والسراب ، يُريهُم فناء وهباءَ ما كسبوا ، ويريهم ضلال ما أمّلوا ، يُوقفهم أمام الــــ :  لآ شئ ... لآ ... شئ  ،... ويُطلعهم المولى على معنى جديد للفناء والهبائية ، فيعلمون أنّ الفناء ليس هو الموت في الدنيا ، ليس مفارقة الدنيا وذهاب متاعها ، بل الفناء هو إضاعة الإنسان نصيبه  من الآخرة بإيثاره للدنيا ...
                           هذا هو عينُ البدد ...
                           هذا هو عينُ العدم ...
                            هذا هو رأسُ الفناء والهباء ... !
   
** خلق اللهُ في الإنسان جهاز رصد دقيقٍ يُسجِّل أعماله وخطراته ونواياه ووأفكاره ومشاعره ....
هذا الجهازُ ليس عضوا من أعضاء جسم الإنسان ، وليس آلة مستقلة في  مخّه أو  أعضائه ... إنّ هذا الجهاز يشغلُ كلّ عقل الإنسان ، ويحتل كل روحه ... !
                
 جهاز الرصد والمراقبة الإلهي في الإنسان  هو عقلُ الإنسان وروحه وجوارحه وبهذه الحكمة الإلهية يكون الكيانُ الإنسانيُ هو الشاهدُ والمشهود ... ، هو الفاعل وهو راصدُ  الفعل ... ،
 يكونُ الإنسانُ ذاته هو المشهدُ والمرصدُ !

**تتجلّى هنا قدرة الله تعالى وعظمته ؛ فقد خلق في الإنسان رقيباً على الإنسان ، جعل من ذاتِ الإنسان رقيباً عليه ، جعل فيه - وليس خارجه - حسابه وقيامته وكتابه ! خلق اللهُ في كيان الإنسان العسس والرقباء والرُّصّد الشهود ، ولم يجعلهم مستقلين عن هذا الكيان ، بل جعل هذا الكيان ذاته بما فيه من روح وجوارح وعقل هو المرصد الرقيب ؛... إذْ لو كان هذا المرصد الرقيب موجودا  في عضو من أعضاء الإنسان  لكان عرضةً للتلف ، أو الضعف أو المرض لأنه سيكون مرهونا بسلامة هذا العضو ، وعدم العبث به .... فسبحان الله  !           

*** إذن جوارحُ الإنسان ليست  فقط أدوات فعله في الحياة  ووسائل كسبه في الدنيا بل  هي رقيبٌ عليه وشهود   !     


** تنطق الجوارح وتشهد يوم القيامة بكل ما فعلت واكتسبت من خير أو شر ... إنّ الجوارح تُخرج المخبوء الذي حرص صاحبه على مداراته وحجبه عن الناس ، والذي ظن - بجهله - أنه مستترٌ عن الله  ، وغفل - بحمقه -  عن يقظة الخالق وحسن تدبيره ، وأنه  خيرُ الماكرين ... فأين يكون منه ، وكيف ينجو ويهرب ، وأين يذهب بعيدا من كونه ؟ !

** إن الإنسان  في الحياة الدنيا  إذا ما ارتكب جريمة أو فعلا شائنا ، حرص على إزالة معالمه وآثاره ؛ فسارع بمحو البصمات والتخلص من  الشهود - ولو كان ذلك بقتلهم  -وتغيير مالم مكان الجريمة - ولو بحرقه - والعبث في الأدلة ، والعبث في بصمات يديه وصوته - ولو كان ذلك بعمليات جراحية - ؛ وذلك لينجو بفعله من الإدانة ... ! ورغم كل ذلك فقلما ينجو من جريمته ... بل إن القاعدة تؤكد أن كل مجرمٍ يترك وراءه دليلاً يُرشدُ إليه ! ... هذا في الحياة الدنيا ... فكيف  بما يتصل بالآخرة ؟ كيف ينجو بأفعاله من ربِّه ؟ كيف يعبثُ بالأدلة والشهود ؟ كيف يعبثُ بهم وهم كيانه ؟ ! إن الشهود والأدلة هم كيانه ... هم جوارحه التي تأتي يوم القيامة تشهد عليه بما فعل ،  أدلته هي روحه وعقله وذاكرته وفطرته وميثاق ربه ... فأنّى له العبث وأنى له الهرب ؟
           هل يستطيع الإنسان هنا أنْ يحرق الأدلة ؟
        هل يحرق ذاته ؟ وإذا ما فعل من باب الشطط والجنون ...
        هل ينجيه ذلك ؟ ألن يبعثه ربه وينطق أدلته ؟ !
        هل ينجيه أن يقتل الشهود ، ويحرق أماكن معصيته ؟
          هل ينجيه أن يعبث ببصمات أصابعه وصوته و... ؟
           هل ينجو بذلك من الخالق ... ؟!
           لن يجدي هذا الجنونُ شيئا ، ولن يزيد صاحبه إلا آثاما !

* إن الأدلة قائمة والشهود حاضرون ... ناطقون ... صادقون .. مبعوثون مع الإنسان ، بل مبعوثون فيه ومعه ، فهم هو ، وإنّه هُم  ... سوف تنطق الجوارح يوم القيامة بما اكتسب صاحبها : الأعين ، والأيدي ، والأرجل ، وكافة الحواس ... سوف يمتثل كل هذا لأمر الله الذي خلقه ، وسوف يشهد على صاحبه : هل حفظ الأمانة أم أضاعها !

* سوف تنطق الجوارح امتثالا لخالقها رغما عن صاحبها ؛ فسيدُها خالقها ، وليس سيّدُها  صاحبَ الجسد ... وقد خُلِقت هذه الجوارح على الطاعة والامتثال ، وفُطرت على الإيمان  وجُبِلت على الاستقامة ... ، وانغرس فيها مبدأُ الاعتراف بالحقِّ بين يدي الخالق ...
  لذا ، - ووفق هذه السنّة الإلهية - تُدلي هذه الجوارح بشهادتها كاملة يوم القيامة ... أمام خالقها ، وأمام الملأ الأعلى ، وأمام الخلق أجمعين ، وأمام  صاحبها الذي يدرك الآن فقط حجمه وقدرته بعد أن نُزعتْ منه زينةُ الحياة الدنيا ... يدرك الآن فقط أنه ليس خالي الوفاض من متاع الحياة وحدها ، بل يدرك أنه لا يملك من أمر نفسه شيئا ، وأنه لا يملك سلطة على جوارحه
وأن هذه الجوارح كانت نعمة الله عليه لخدمته في الدنيا ، وإعانته على العبادة ، ولم تكن بأي حالٍ وسيلةً لإغضاب الله ! دليل ذلك أنها قائمة تشهد له ،- أو عليه - فيما يتعلق بطاعته لله . يدرك الآن فقط أنَّ الأمرَ كلَّه لله ... فيمتثلُ ، وتمتثل جوارحه للشهادة عليه  يوم القيامة ... !

**يصور المولى - سبحانه - مشهد الاعتراف المعجز في كثير من الآيات الكريمة ...
يقول تعالى :
" يا معشرَ الجنِّ والإنسِ ألمْ يأْتِكُم رسلٌ منكم يقصُّون عليكم آياتي وينذرُونَكم  لقاءَ يومِكُم هذا قالوا شهدنا على أنفِسِنا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا وشَهِدوا على أنفسهم أنّهم كانوا كافِرين " سورة الأنعام / الآية 130
يتكرر في الآية فعل الشهادة : " شهدنا " و" شهدوا " وكأن الله تعالى يؤكد قدرته على إشهاد الخلق على أنفسهم ، ويبرز معجزته وقدرته على استخراج شهادتهم على أنفسهم من أنفسهم ، كما أنه - سبحانه - يؤكد عدله في حكمه على هؤلاء في تقرير مصيرهم .

*** يصف الله هذا المشهد في موضع آخر ، في قوله :

 " فمنْ أظلمُ ممّن افترى على اللهِ كذباً أو كذّب بآياته أُولئك ينالُهم نصيبُهم من الكتابِ حتّى إذا جاءَتْهُم رُسُلُنا يتَوفَّنَهم قالوا أينَ ما كنتم تَدعُون من دون اللهِ قالوا ضَلُّوا عنَّا وشَهِدُوا على أنفُسهم أنّهم كانوا كافِرين "  سورة الأعراف / الآية 37

** تحتفي الآيات القرآنية بتصوير ألوانٍ من الشهادات الإنسانية يوم القيامة ... هذه الشهادات الفريدة الدالّة على جبروت الله وجلاله ؛ فهي غيرُ مدفوعة بالتعذيب ،  أو الرشوة ، أو التهديد - تعالى الله عن ذلك - إنها مسوقةٌ على لسان أصحابها بقوة واحدة فقط ، هي : سننُ الله في خلقه  ، وإبداع يديه في خلقه لهم كيف يشاء ، وبما لا يجعلهم يدورون خارج مداره ... مدفوعة بالبرنامج الذي خلقه الله في الفطرة وأقرّها عليه ، فإذا بها تأتي ربّها يوم القيامة تُسجّل شهادتها على فعلها ، وتُقرّ حق الله في عباده ...


     ** منْ هذه الشهادات التي تصورها الآيات القرآنية قوله تعالى في سورة الأنعام :

  " قد خسرَ الذين كذّبوا بلقاءِ اللهِ حتّى إذا جاءتْهُم الساعةُ بغتةً قالوا ياحسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملُونَ أوزارَهم على ظهورِهم ألا ساءَ ما يزِرُون 21)  
        
   ويقول تعالى في سورة " المدّثّر " :
" كلُّ نفسٍ بما كسبتْ رهينةٌ 38) إلاّ أصحابَ اليمينِ39) في جنّاتٍ متسائِلُونَ 40) عن المُجرِمين 41) ما سَلَكَكُم في سقَرٍ 42) قالوا لم نكُ من المُصلّين 43 ) ولم نكُ نُطْعِمُ المسكين 44 ) وكُنّا نخوضُ مع الخائِضين 45 ) وكُنَّا نُكذِّبُ بيوم الدّين 46) حتَّى أتانَا اليقينُ  47 ) فمَا تنفَعُهُم شفاعةُ الشّافعِين 48 )

** كذلك تصوّر الآياتُ القرآنية اعتراف أصحاب السعير بذنوبهم وضلالهم ، وتكذيبهم الرسل ... يقول تعالى :

" ولِلّذين كفرُوا بربِّهم عذابُ جّهنَّمَ وبئس المصيرُ 6 ) إذا أُلْقُوا فيها سمعُوا لها شَهِيقاً وهي تفور 7 ) تكادُ تميَّزُ من الغيظِ كُلَّما اُلْقِيَ فيها فوجٌ سأَلهُم خَزنَتُها أَلمْ يأْتِكُم نذيرٌ 8 )  قالوا بلى قد جاءنا نذيرٌ فكذّبنا وقُلنا ما نزَّل اللهُ مْن شئٍ إنْ أنتُم إلا في ضلالٍ كبير وقالوا لو كنّا نسمعُ أو نعقلُ ما كُنّا في أصحابِ السّعير 10 ) فاعترفُوا بذنبِهم فَسُحْقَاً لأصحابِ  السّعير 11 )  سورة المُلك

*** تصور الآيات القرآنية الجدل الذي يشتعل بين الأمم الهالكة التي أضلّ بعضها بعضا ... وهو جدلٌ  يتضمّن اعتراف كل أمة بأوزارها  ، وشهادتها على نفسها باستحقاقها العذاب ... يقول تعالى :

" قالوا ادخلوا في أُممٍ قد خَلتْ من قبلِكُم من الجنِّ والإنسِ في النّارِ كلّما دخلتْ أمّةٌ لعنتْ أختَها حتّى إذا ادَّاركُوا فيها جميعاً قالتْ أُخراهُم لأُولاهُم ربَّنا هؤلاءِ أضَلُّونا فآتِهِم عذاباً ضِعفا من النّارِ قالَ لكُلٍ ضِعفٌ ولكن لا يعلمون 38 ) وقالتْ أُولاهُم لأُخْراهُم فما كان لكم علينا من فضلٍ فَذُوقوا العذابَ بما كُنتُم تَكسِبون 39 )

**تعرضُ الآياتُ القرآنية مشاهدا للاعتراف الجمعي : اعتراف الأمم ... اعتراف القرى الظالمة التي أهلكها الله بظلمها  ... يقول سبحانه :

   " وكمْ منْ قريةٍ أهلَكناها فجاءها بأسُنا بياتاً أو هم قائلُون 4 ) فما كان  دعواهم إذْ جاءَهُم بَأسُنا إلا أنْ قالوا إنّا كنّا ظالمين 5 )

*** إن عرض القرآن الكريم لهذه المشاهد المعجزة يثير الرهبة من جلال الله ، واليقين بأنه الخبيرُ كما وصف ذاته في قوله :

    " أفَلا يعلمُ إذا بُعْثِر ما في القبورِ ) وحُصِّل ما في الصّدورِ 10 )  إنَّ ربّهم بهم يومئذٍ  لخبير11 )
           هل لا حظنا مدى التناسب والتناظر بين قوله تعالى :
                       -  بُعثِر ما في القبور
                        - حُصّل ما في الصدور
 هل لاحظنا العلاقة بين الفعل " بعثر "   والفعل " حصِّل "  ؟
  العلاقة بين هذين الفعلين - بلغة أهل البلاغة - تُسمّى  : التضاد ... وهي علاقة دالة على قدرة الله الفائقة ؛ إذ في الوقت الذي تقوم فيه القيامة وتنفتح القبور ، وتتبعثر الأموات والرّفات ... في هذا الوقت يُحصِّل الله الشهادات من صدور العباد !
           يااا إلهي ؟!
 إن الله لا يصف قدرته على البعث المادي فقط " بعث الأجساد " ، بل يصور قدرته  على البعث المعنوي أيضا ... إنه - سبحانه - لا يبعث الأجساد فقط ...   بل الأرواح الكامنة في هذه الأجساد ... بل الشهادات والاعترافات والأعمال المخبوءة في هذه الصدور
  الراقدة بين ألواح القبر الآسن ... !
                   وكأنّ الله سبحانه ...
                     يدل على قدرته ...
                 اللامتناهية .... اللامتناهية

وهنا يتبادر إلى  أذهاننا - ولله المثل الأعلى - عجز البشر عن تحصيل الاعترافات من الأحياء ، فما بالنا بالأموات ؟!
*** منْ يمت تسقط شهادته في الدنيا ، وربما يُغلق ملف القضية كلها لوفاته ،   فتضيع  الحقيقة والحقوق ، ولكن الله ... الله ... الخالق يُحيي الموتى ، ويحيي صدورهم وأسرارهم بعد النشور ، ويخرج المخبوء ، ... فإذا بهذا المخبوء يبدو وكأنه حدث اللحظة  لم تمر عليه السنوات أو القرون والأحقاب .
يُخرج اللهُ المخبوء وكأن المائت لم تتعطن حثته ولم تبلَ ، ولم تتغير ملامحها ، ... ولم يتعفن ، ولم ينل منه ال... فناء !

*** الصندوق الأسود الذي يشتمل عليه كيان الإنسان والذي يحتفظ فيه بأسراره وأعماله ، صندوق فتيٌ قويٌ ، صندوقٌ كامن في كيان الإنسان  لآ يتأثر بموته وفنائه ... إنه صندوق نشطٌ يعمل بأمر من الله ويسجل على الإنسان كلّ شاردة ووواردة إلى الحد الذي يجعل الإنسان يصرخ متحسّرا حزينا يوم القيامة مرددا ما قاله الله - سبحانه - في كتابه الكريم :
" ما لهذا الكتابِ لم يغادر صغيرةً أو كبيرةً إلاّ أحصاها "

*** الصندوق الأسود مبدأٌ إلهي ٌ أقرّه في كيان الإنسان ، وقال له : كن ؛ فكان ويكون ... كما أنّ الصندوق الأسود مبدأٌ ومنظومة خلقها الله في جبلّة الأرض كلها ... ؛ فالقرآن الكريم  يصف الأرض يوم القيامة  وهي تُدلي بشهادتها أمام الخالق - سبحانه - وتُخرجُ مخبوءها وكوامنها ، وأسرارها ... ، وهذا المخبوء جزءٌ من زلزلة الأرض كما في سورة " الزلزلة " . يقول سبحانه :

   " إذا زُلزِلتِ الأرضُ زلزالها 1) وأخْرجتِ الأرضُ أثقَالها 2) وقال الإنسانُ مالها 3 )   يومئذٍ تُحدِّثُ أخبارَها 4 ) بأنَّ ربَّكَ أوحى لها 5 ) يومئذٍ يصدرالناسُ أشتَاتاً ليُرَوا أعمالَهم 6 ) فمنْ يعمل مثقالَ ذرةٍ خيراً يَرَه  7 ) ومنْ يعمل مثقالَ ذرّةٍ شرّاً يرَه 8 )

  *** منْ نور هذه الآيات الكريمة يتّضح لنا السرُ في دقّة الموازين الإلهية يوم الحساب ... ؛ دقّة الموازين التي تُوزنُ بها أعمالُ الإنسان يوم القيامة يقفُ وراءه :
   1 -  عدلُ الله سبحانه  .
   2 - حكمة الله سبحانه في أن جعل مرصد أعمال الإنسان   في كيانه وجوارحه ؛ فجعل الإنسان شاهدا على  نفسه ، ومشهودا منها يوم القيامة ... أعمال الإنسان كامنة في هذا الصندوق الأسود الذي استلهم منه صانعو الطائرات هذه الفكرة فجعلوا في الطائرة صندوقا أسود ا صلبا    لا يتأثر بما يحدث للطائرة من حرائق أو تحطّم ، أو غير ذلك ، وهو يسجّل كل  ما يحدث فيها ....  فهو سجلّها الحي  الدقيق ....


*** وهكذا يكون الإنسان هو الشاهدُ على ذاته ... مصداقا لقوله تعالى -في  سورة القيامة  :" إلى ربِّك يومئذٍ المُستقرُ 12 ) يُنبّؤ الإنسانُ يومئذٍ بما قدّمَ وأخّرَ 13)  بل الإنسانُ على نفسه بصيرةٌ  14) ولو ألقى معاذيره 15 )



*** نعم... نعم  ... وفق هذا القانون الإلهي القويم ... وفق منظومة  الصندوق الأسود  الذي خلقه اللهُ فينا ، سوف يكون حسابنا يوم القيامة كما صوّره اللهُ سبحانه - حساباً دقيقا شاملا : من جهة الزمن : أي إخبار الإنسان بما قدّم وأخّر .
           - دقيقا من جهة استيفاء الحدث ، وتحرّي الشهادة والشهود  : تنصيب بصيرة الإنسان شاهدا عليه  ، ولو ...
                                         ألقى ...
                                       معاذيره ...
                                        ولو ... 
                                        ألقى 
                                          معاذيره 
                                              ولو ... 
                                              ألقى 
                                           مـ عـ اااا ذيـره 
                                       

                


                                                  بقلم :  د. كاميليا عبد الفتاح          
                                  


                          


تعليقات