تأملاتٌ في معالجة الخوف الإنساني مابين الطرح القرآني ومسرحية " فاوست " لجوته

* يقِّدمُ  الشاعرُ الألماني " جوتة " في مسرحيته الشهيرة : " فاوست "- في  ترجمة د. عبد الرحمن بدوي - نموذجا مؤثرا للكيان الإنساني الهشّ ممثّلا في شخصية الدكتور " فاوست "؛ فـــ " فاوست " هذا مهموم بالبحث عن الحقيقة والروح ، مهموم في  سعيه اليائس إلى البحث عن إمكانية نجاة الإنسان من الكبد والهم ، ..  يكاد الجنون يصيبه وهو يبحث عن الخلاص والسعادة الخالصة النّقية ...
السعادة غير المشوبة بالهم والألم والضعف الإنساني  والحزن ...
   
** وتترددُ على لسان " فاوست " - في المسرحية - كثيرٌ من العبارات التي تؤكد  أنه
يجسد نموذج الإنسان المُبتلى بالمرارتين :
                                                      الخوف ...
                                                      الحزن ...


**   وفي قمة يأسه  يأتي الشيطانُ  " ميفستوفليس "  ... ويستدرج فاوست للشكوى والتضجّر ... ويعرض عليه نفسه خادما أميناً ... ويعرض عليه الكثير من المتاع ... ثياباً  زاهية ... أموالا ... فينفجر " فاوست " بشكوى مريرة تصف موقفه العقلي والفلسفي من الوجود .. وتصف فشله المؤلم في التصالح مع الحياة ، والوصول إلى منظومة متسّقة في التعامل معها ؛ فهو يأبى إلا الحياة الصافية ... النقية ... والسعادة اللانهائية ... والكشف عن أسرار الوحود . يأبى أن يعجز عقله عن تفسير شئٍ ما في الحياة   :
            يريد لعقله كل الطاقات والقدرات الكشفية ...
          ويريدُ لروحه الخلود كلّه .
             يريدُ لحواسّه المتاع اللانهائي  ... غير المقيد     
           بعمرٍ ... أو ... بسأم   !
            يريدُ حياةً بلا آلامٍ ... أو أحزانٍ  ؟ !


يقولُ فاوست واصفا مأساته ، ساخراً من المتع التي يعرضها عليه " ميفستوفليس " :
               " مهما يكن الثوب الذي أرتديه فساشعرُ بآلام الحياة
                الحياة الأرضية المحدودة الضيقة ... إني من الهِرمِ
                 بحيثُ  لا أستطيع الاكتفاء باللعب . ومن الشباب
                 بحيثُ لا أخلو من الأماني !
                 ماذا يمكنُ للعالم أنْ يحقّقه لي ؟ ...
                 في كلّ صباح أستيقظُ مُتضجّراً ، وأودُ أنْ أذرف
                دموعا بسببِ اليوم الجديد الذي لن يحقق لي رغبة
                واحدةً . نعم رغبة واحدة ...
                ولهذا فإنّ عليّ حين يُرخي الليلُ سدوله أنْ أتمدّد
                على فراشي  وأنا مملوءٌ بالقلق  ...! وحتى هنا
                 لا أشعر بأية راحة ! ؛ إذ تزعجني الأحلامُ الوحشية
                ... وهكذا فالوجودُ  عبءٌ ثقيلٌ عليّ ...
                    الموتُ صار أمنيتي ... والحياةُ بغيضةٌ عندي . !


***يسترسلُ فاوست في شكواه وتضجره من الوجود حتّى يلعنَ كل شئ في حياته ... يلعن كل ما لم يستطع أنْ ينسيه وينجيه من الخوف والقلق والحزن والألم
، ويُعلن انسلاخه من الوجود ، وعدم مبالاته به ، فيرجو الشيطان أن يدمر كل شئ ؛ لأنه لا يعنيه شئٌ ! يقول فاوست  :
          
                    " من هذه الأرضِ تنبثقُ مسرّاتي ...
                 وهذه الشمسُ تُشرقُ على آلامي ... !
                 فدمّرْ هذا العالمَ إلى أنقاضٍ ...
                 ليس هناك شئٌ يعنيني ؟!


* يستغلُ الشيطان هذه اللحظات السوداء في حياة فاوست ... يستثمر انسلاخه من الإيمان والقيم ، والانتماء إلى الوجود
وإحساسه الراسخ باليأس وانعدام جدوى كل شئٍ ، فيدعوه إلى أن يعقد معه صفقة تُنجيه - بزعم الشيطان - من كل هذا - وتحمله إلى الحياة التي يريدها :
                        الحياة الصافية من الكدر ...
                         السعادة الخالصة والمتاع اللانهائي ...
                          الشباب الدائم والتفجّر ...


* كشف الشيطان عن تفاصيل صفقته في اللحظة التي تأكّد فيها من استواء الحياة والموت عند فاوست ، ومن أنه في قمة يأسه ولا إيمانه إلى الحدّ الذي لن يتردد فيه في أن يعقد صفقة مع الشيطان ذاته ! بحثاً عن الخلاص الموهوم ... والخلود المزعوم ... وصفاء الحياة السرابيّ غير الموجود ... !




              
** وقد اندفع " فاوست " تحت ضغط  هذه المرارات إلى أنْ يعقد صفقةً كارثيّة مع الشيطان " ميفستوفوليس " ؛ فقد تنازل " فاوست " عن ...  روحـــــــــــــــه للشيطان ... ليفعل بها ما يشاء  حتّى ولو أرداها وقذف بها إلى الجحيم ... ! وذلك في مقابل أنْ يعيش لحظاتٍ سعيدة صافية بلا كدرٍ ... بلا  حزنٍ  ... بلا خوفٍ ...
*** لقد باع فاوست روحه للشيطان لأنه أراد - ولو لدقائق ولحظات - أن يهرب من طبيعة الحياة ، ومن علامتها الفارقة ، وهي : الكــــــــدر والتنغيص ...
 **  أراد فاوست المحالَ ... أراد  أن يعيش الحياة وكأنه ليس في الحياة ... لأنه طلب ما ليس فيها ... تمنّى السعادة النقية الخالصة التي لا يعترضها خوفٌ أو حزن !  تمنّى لحظة عابرة يبلغُ جمالها وصفاؤها إلى حدّ ألا يريد بعدها أن يموت ، أو أنْ لا يهتم بالموت إذا أتاه !

وفي الحوار الذي يدور بين " فاوست " ، والشيطان " ميفستوفوليس " يعرض " جوته " هذه الصفقة الكارثية الانتحارية ...

  - " فاوست : لو تمددّتُ  هادئاً على سريرٍ كسولٍ ... فلتكُنْ نهايتي في الحال . ولو استطعتَ أن تخدعني متملّقاً ، بحيثُ أرضى عن نفسي ولو استطعتَ أنْ تختالني بالاستماع ، فليكن هذا آخر يومٍ بالنسبةِ إلىّ  ... أراهنُ على ذلك ... ! 
 - ميفستوفليس : موافق ... موافق .
 - فاوست : موافق .. وموافق ، وإذا قلتُ لأيّة لحظةٍ : " تلبّثي " ... فأنتِ رائعةُ الجمال " ، ففي وسعكَ أنْ تُقيدني في الأصفاد وبوديّ حينئذٍ أنْ يدركني الموتُ ... وليدقّ ناقوسُ الموتى ... ولتتحرّرْ من خدمتك ... ولتتوقّف الساعةُ ... وليسْقُط عقربُها
 ... لقد حان هنالك حيني ..
-  ميفستوفليس : فكِّر في هذا جيّدا ... ، ونحنُ لن ننساهُ . "
* ويطلبُ الشيطانُ من فاوست أن يكتب هذه الصفقة في ورقة وأنْ يوقّع عليها بدمه ... فيفعل راضيا كلّ الرضى ... ثم يُستأنفُ الحوارُ بينهما  ليوضِّح أطماع فاوست من هذه الصفقة ... 
-
 - فاوست : لا خوف أبداً منْ أنْ أنتهكَ هذا الميثاق .. إنّ الروح الكبيرةَ احتقرتني ... والطبيعةُ أغلقتْ نفسها دوني ... وانقطع حبلُ التفكير ...وصرتُ أتبرّم بكلِّ علمٍ ... فلنلقِ بأنفُسنا في دوامة الزمان ... وفي مجرى  الواقع ... وليتعاقبْ الألمُ والاستمتاع والنجاحُ والسّخطُ الواحدُ مع الآخر حسبما يمكنُ ...
 * وهنا يُبشّر الشيطان ميفستوفليس - يبشر - فاوست بأنه غير ملزمٍ بأي شئ ؛ لأنّه سيعيش الضياع بأسره ... وسوف يهيم في الأرض غير مرتبط بأي قيمة أو مبدأ ؛ ذلك ليتجرع السعادة الحقة ... 
  - ميفستوفليس : لن يُوضع لك مقدارٌ ولا هدف ... إفعلْ ما يحلو لك ...تذوّقْ كلِّ شئ ... والتقطْ في طيرانك ما تشاء ...واحصُلْ على كلِّ ما يطيبُ لك ... إنطلق ولا تحتشم ... "

*** نعم ... نعم هكذا يجب أن تكون صفقةُ الشيطان وهكذا عبّر عنها ، ولخّصها " جوتة " ببراعة في هذه الجلة التي ساقها  على لسان " ميفستوفليس ": " إنطلق ولا تحتشم "




** تتمّ الصفقة الشيطانية ، وينغمسُ " فاوست " في الحياة الشهوية ، ويلازم الشيطان في كل لحظاته ...- بل إن الشيطان هو الذي يلازمه في كل لحظاته ، مستلبا  روحه التي  ابتاعها منه إلى الأبد ..

 ** وتنتهي حياة فاوست بترديه في الجحيم ...  والجحيم هنا ليس  الجحيم بمعناه الأبدي النهائي فقط ... بل تتبدّى له دلالات ثريّة في طرح جوتة ... حيث تبدو   الحياة التي منحها له الشيطان هي الجحيم بعينه ... فلقد أطلق الشيطانُ من فاوست الشيطان الرابض في ضلوعه وكيانه ... أطلق منه سراح النفس الأمارة بالسوء النازعة إلى اللذة اللانهائية   أيّا كان ثمنها ومقابلها !فاستطاع الشيطان الحقيقي أنْ يخرج من الإنسان شيطانه القابع فيه ... والشيطانان متشابهان ؛ فإبليس - في الطرح الإسلامي والديني عامة - لحقته اللعنة حين طمح إلى تكريس ملكه وكبريائه من خلال رفضه السجود لآدم ؛ وكأنه يبحث عن وجود مستمر لا ينازعه عليه أحد ...، ولمّا لحقته اللعنة وسوس إلى آدم بالأمنية ذاتها : الخلود والحياة التي لا تلحقها النهايات ، فأوقعه في المعصية وأنزله من جنته ... وهكذا يعيدُ " شيطان جوتة " مكيدته مع الإنسان ماثلا في الدكتور فاوست  وهكذا كان فاوست هو الخاسر في هذه الصفقة في كل تفاصيلها ... في  مبتداها ومنتهاها .... !


*** إنّ الحياة التي تمنّاها فاوست - بعيدا عن الصفقة مع الشيطان  - هي الحياةُ التي تطمح إليها كلُّ نفسٍ إنسانيّة  عبر تاريخ الوجود ... ليس هناك إنسانٌ لا يرجو حياة خالية من الهمّ والألم والحزن والكدر ... ليس هناك إنسانٌ لا يرجو وجودا صافيا من الغم والمرض والقلق والتنغيص ... ليس هناك إنسانٌ لا يرجو الخلود ، أو - على الأقل - يرجو الخلاص من منغّصات الوجود ...

** وقد عرض الطرحُ القرآنيُ  أسرارالنفس الإنسانية ، ووصف
دقائقها الخافية ... وصف تشبثها بالحياة الدنيا وتطلّعها إلى الخلود ... وصف ضعفها وهشاشتها وتضعضعها السريع أمام منغصات الحياة وقلق الوجود ... وصف انكسار الإنسان أمام المرض والفقر والحزن والموت والعوز والخوف والهم والنقص ... وصف ارتعاشه بين يدي البلاء والابتلاء .. وتداعيه إذا ما فقد عزيزا عليه من نفسٍ أو مالٍ أو جاهٍ ...
وصف القرآن الكريمُ خوف الإنسان من المجهول والغيوب ، وسعيه الدائم إلى البحث عن ركائز الأمن التي هي في حد ذاتها أسباب الخوف ...!
                         - المال ...
                         - البنون ...
                         - الجاه ...
                          - الشهوات عامة ...
وفي الوقت الذي يستزيد فيه الإنسانُ من هذه الدعامات ظنّا منه أنها تقوي ضعفه ، وتسانده في مواجهة وجوده الناقص - في الوقت ذاته - تزيد هذه الشياء إلى شقائه الشقاء ، وإلى نقصه المزيد من النقص ، إذ يزداد خوفا على المال ، وعلى البنين ، وعلى ما حققه من جاه ونفوذ ، كما يصبح ويُمسي خائفا يترقب الأعداء ويترصّدهم ، ويتخوّن الأصدقاء ، ويشكو غياب الأمانة ، ويألم لأي نقص أو ابتلاء ينال منه ، يصبح ويُمسي مذعورا تتخطفه الوساوس والهموم حتى يصير كل ما ظنّه أسباباً للقوة والنجاة من الخوف والضعف هو عين الضعف وأساس الخوف ومصدره ...
وهكذا تنقضي حياة الإنسان  مابين أمرين :
       -  الكبدٍ والمكابدات والغُصص  ...
     - السعي اليائس للتغلب عل الكبد والمكابدات والغُصص ...

** ويُلخّصُ المولى - سبحانه - في كتابه الكريم - كبد الإنسان ومأساته في أمرين ... أو شعورين يحاصرانه  ، هما :
                                        - الخوف ...
                                         - الحزن ...

وإذا ما استعرضنا الآيات القرآنية وتأملناها وتدبّرناها ، وجدناها لا تحيد في وصف معاناة الإنسان عن هذين الأمرين :
                               الخوف ... الحزن ...
*** وإذا ما تأملّنا هذين الشعورين وجدنا أنهما يشملان كل حياة الإنسان ؛ فالخوف يكون من الغيب  الآتي اوالمستقبل الغامض الذي لم يكشف عن وجهه بعد ...
أمّا الحزنُ فيكون على الماضي الفائت الذي ولّى وليس إليه سبيل ولا وصول ... ، والإنسان ... كل إنسان حزينٌ على ماضيه أيّا كان هذا الماضي ...
 - فهو حزين على ماضيه إذا كان حلوا بهيجا لأنه لن يستعيده بأي حال !
- وهو حزين من ماضيه إذا كان مؤلما موجعا ؛ فهو يُدميه كلما تذكره وهاجمه بالذكرى !
- وهو حزين من ماضيه إذا كان قد ارتكب فيه أخطاءً ، أو ذنوباً يتمنى - عبثا - رجوع الزمن  لإصلاحها والحيلولة دون الوقوع فيها ...!

*** حياةُ الإنسان محصورة إذن بين ماضٍ ومستقبل . أمّا الحاضر فهو وهمٌ غير كائن ، وهو غير موجود إلاّ في تصريف الأفعال في مناهج  النحو - أو القواعد -؛  ذلك أن كل لحظة تمر بالإنسان ويحدث فيها حدثٌ ما ، أو تقالُ فيها عبارةٌ ما ... هذه اللحظة سرعان ما تنقسم  أثناء الحدث أو الكلام إلى نصفين :
                 ماضٍ
                 قادم ...
وهكذا يبدو الإنسان في التصور الإسلامي كياناً  محصورا بين الخوف والحزن ... وفيهما تكونُ مأساته ... وبنجاته منهما تكون سعادته ويكون خلاصُه ... !   وهنا نتساءل :

هل يوجدُ مقابل الصفقة الشيطانية لــ " ميفستوفليس " - هل يوجد صفقة ...  إلهية ...  للنجاةِ ... للخلاص ... من الـــــخوف ... من الــحزن ... ؟  هل من خلاصٍ وانعتاقٍ ...؟ هل من رحمةٍ من هذين الــ ... القاتلين المُهلكين ...؟! 

*** الصفقة الإلهية للنجاة من الخوف والحزن :
هذه الصفقة تشترط على الإنسان أنْ يكابد الخوف لينجو من الخوف ...! لآبد - في هذه الصفقة من الانصهار في خوفٍ ما للنجاة من خوف الدنيا والآخرة ...
                    كيف يكونُ الخوفُ نجاةً من الخوفِ ؟!
                    وأيُّ خوفٍ هذا الذي يُنجي من الخوفِ ؟! 
                
*الخوفُ من الله - في هذه الصفقة الإلهية الرحيمة -هو السبيل الوحيد للنجاة من فزع الدنيا والآخرة ... هو الدرع الذي يقي الإنسان من منغصات الحياة وتهديدها الدائم للإنسان ... هو النجاةُ من المُهلكين:
                         الخوف من الآتي ...
                      الحزن على ما مضى  ...
*** والخوفُ من الله هو توقيره وتقديره حقّ قدره ، هو مراقبة الله في السرّ والعلن ، والحياء من وجهه الكريم ، هو إجلاله والاستحياء منه أنْ يرى فينا المعصية والسوء ، وأن يرى فينا ما يكره ...
             *وشتّان مابين مذاق الخوف من الله والخوف في الدنيا
              من الدنيا ، فالخوف من الله شعور كريم سامٍ نبيل ،...
              راقٍ ، لا يوجد إلا في النفوس السامية والأرواح
              الطاهرة التي تتأبّى على الفجور والفسق والمعصية...
              الأرواح الراقية التي تدرك أن الالتزام بالصراط القويم
              قمّة حرية الروح واستعلائها على رِخص الحياة الدنيا
              ... الخوف من الله يسبغُ على أصحابه جلالاً وعظمة
              ومهابةً ؛ لأنه خوفٌ من العظيم الجليل العزيز ،...
              ففي هذا اللون من الخوف تتطهر النفس ، وتتدرب
             الروح على أنْ ترقى إلى المدارج العليا ، والمشاعر
             الراقية ، فتعلو على سفاسف الحياة ، وتتأبى على كل
              سفاسف الحياة الدنيا التي تستعبدُ غيرها من الأرواح
              التي التهمها :
                   الخوف من الدنيا ،
                   والخوف على الدنيا .
            ***  الخوفُ من الله يمنح صاحبه القوة والمنعة ؛ لأنّه
                  لا يخشى إلاّ الله ، ولا يبلي بغير الله ، ولا يراقب أو
                يتربّص إلا موقعه من الله ومكانته منه ... أما ما دون
                 ذلك  فليس بذي قيمةٍ ...
                 لذلك فإن من يتقي الله ويخشاه لا يخشى من الناس
                  شيئاً ، ولا يستعظم أمر أحدٍ ، ولا يحسبُ حسابا
                 لذوي المال أو السلطة والنفوذ والجاه ,....  إلخ
                   ولا ينافق أحدا ، ولا يتربص فعل الآخرين منه
                   ولا يهتم إذا أعرض عنه ذوي النفوذ والقرار ...
                   كما أنه لا يهتم إذا ما أقبلوا عليه وهللّوا  له ؛
                  لأنه يدرك أنهم غير قادرين على النيل منه ، وغير
                   قادرين  على منحه شيئا من أمور الدنيا أو الآخر
                  فهم مثله  بشرٌ ضعفاء محدودو الأعمار والقدرة
                  محكومون بقدر الله ؛ لا يقدرون على شئِ ، ...
                  فأنّى تكونُ لهم المهابة والخشية والخوف ؟!
يقول تعالى واصفاً هذه الدرجة من الإيمان :
" الذين قال لهم الناسُ إنّ الناسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم         فزادهُم إيماناً وقالوا حسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ 173) فانقلبوا بنعمةٍ من اللهٍ وفضلٍ لم يمْسَسْهُم سوءٌ واتّبعوا رضوانَ اللهِ واللهُ ذو الفضل العظيم 174)  آل عمران
*ومن هنا يكونُ أمر الله لنا بأن نخشاه ولا نخشى الناس ، هذا الأمر الإلهي رحمة لأنه يعتق أرواحنا من المذلة لغيره ، ومن العبودية لغيره ... بينما غيرُه لا يملكون  لنا ضرّا ولا نفعا ! ...
 يقولُ تعالى : 
" فلا تخشوا الناسَ واخشونِ ولا تشتروا بآيآتي  ثمناً قليلا " الآية 44 / المائدة
 ويقول تعالى :
 " فاللهُ أحقُّ أنْ تخشَوه إنْ كنتم مؤمنين " 13/ التوبة

** أمّا الخوف من الحياة الدنيا والخوف على كل ما يتعلق بها  ، فهو الضعف بعينه ، وهو المذلّة  والعبودية ، لأنه خوف على أشياء عابرة متغيّرة ، متقلبة كل لحظة وكلّ آن ، سواء أكان الخوف على المال أو على الولد ، أو على الصحة والجاه والنفوذ ، والنجاح والسلطة والجمال ، و...، و.... كلّ ذلك متقلّب متغير :
   المال ينفذ ، والولد يغادر بالحياة أو بالموت أو يكون عدوّا وحزنا ، والسلطة تتقلب بين الأيدي ، والصحة والجمال مرهونان بالعمر وبغير ذلك ، وكل شئ ... كل شئ يتبدّل ويتحول ، ويتم تداوله بين الناس كأنعم مقسومة بينهم للفتنة والابتلاء .
*** هذه الأشياء كلها غير ثابتة ، بل خلقها اللهُ ليتم تداولها ، ويتم اختبار الناس جميعهم من خلالها .
*** التغيّر والتحول إذن هو القاعدة التي يجب أن نتوقعها ولا نجزع منها ، والثبات في الحياة وهمٌ جنوني ، وسرابٌ خادعٌ ليس من الحكمة أنْ نتوقعه ونرجوه ونتمناه في مذلة ، ونجزع ونشفق إن لم نجده .
لقد صدقنا اللهُ تعالى حين وصف الحياة كلها ووصف مقامنا فيها بأنه مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين ؛ فكيف نغفل عن هذا ؟ وكيف نرجو بعد هذا القرار الإلهي والتصريح الإلهي الواضح - كيف نرجو دوام الأشياء وخلود الأحباء ، وثبات القلوب ، ودوام النعم ؟ كيف ونحن - في الأصل عابرون زائلون بين لحظة وأخرى كالجالس فوق الريح ؟ كيف تكون حياة العابر ثابتة مستقرة دائمة مكتملة وادعة آمنة ؟ كيف ؟
**من هنا أراد اللهُ لنا الانعتاق من الخوف على الدنيا ومن الخوف منها ، أراد لنا التحرّر من هذه العابرة الخادعة ، أراد لنا ألاّ نستذل أرواحنا فيما هو ليس مجدياً ، وليس مغيّراً للواقع والحقيقة .
 ** الخوف على الحياة الدنيا والخوف منها مذلّة ومهانة وانتحارُ روحي وبدنيٌ ، لأنه لن يؤدي إلى شئ ، ولن يوصل صاحبه إلى انتصار ما أو شعور بالأمن ، أو الرضا ...
*** الخوف في الحياة الدنيا هو الذي يورث الحزن والهمّ
 والانكسار والتخاذل والضعف ، والضعف بدوره يؤدي إلى المزيد من الخوف والتخاذل في مواجهة الحياة ، والمزيد من العبودية لها ... ، وهكذا تدور الدائرة  الناريّة المفزعة الشبيهة بصفقة ميفستوفليس في  مسرحية فاوست !  لذلك يرتبطُ الخوف دائماً بالشيطان ، ويقترن به ، وينبعُ من وساوسه . يقول تعالى في ذلك :
 " إنّما ذلكم الشيطانُ يُخوِّفُ أولياءَهُ فلا تخافُوهم وخافونِ إنْ كنتُم مؤمنين " 175/ آل عمران
** لا سبيل إلى كسر دائرة الخوف إلاّ بتدعيم الروح بالخالق ، وتقوية الضعف الإنساني بإمداده بقوة من الله سبحانه . ولن يتم هذا الإمداد من الله إلا إذا كان الإنسان سائرا على الصراط المستقيم ... يخشى وجه ربّه ، ويتقيه ، ويراقبه ، فيقبل عليه اللهُ برحمته ، ويمنحه من الأمن والسكينة والرضا والقوة ما يواجه به أهوال الدنيا وأهوال الآخرة ...
                       هذه هي الصفقة الإلهية الرحيمة
                       هذه هي صفقةُ الله المُحبّ الودود
                        الرحيم ...الأقرب إلينا من حبل الوريد
                        هذه هي الصفقة تتنادي بها الآياتُ القرآنية
                          ولا من مُستمعٍ ، ولا منْ واعٍ  ، أو مُجيب  
** الاستقامة والخوف من الله هما الخلاص الوحيد من فزع الدنيا والآخرة .
يقولُ تعالى :
" ومن يعملْ من الصالحاتِ وهو مؤمنٌ فلا يخافُ ظلماً ولا هضما " 112 / سورة طه
" فمنْ تبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنوُن " 38 /  سورة البقرة
" بلى منْ أسلمَ وجهَه لله وهو مُحسنٌ فلهُ أجرهُ عند ربِّه ولا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون " 112 / سورة البقرة
" منْ آمنَ بالهِ واليومِ الآخرِ وعمِلَ صالحاً فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون " 69 سورة المائدة



** ويمتدح اللهُ - سبحانه عباده الذين يراقبونه خشية وخوفا ، ويباهي بهم ن ويعدهم الخير والأمن . يقولُ تعالى :

" والذين يَصِلُون ما أمرَ اللهُ به أنْ يُوصَلَ ويخشونَ ربهم ويخافون سوء الحسابِ " 21 / سورة الرعد

" يُوفُون بالنّذرِ ويخافُونَ يوماً كانَ شرُّهُ مُسْتَطِيرا " 7 / الإنسان
" يخافُون يوماً تتقَلّبُ فيه القلوبُ والأبصارُ " 37 / سورة النور
" تتجَافَى جُنُوبُهم عن المضاجِعِ يدعونَ ريّهم خوفاً وطمعا"
16 / سورة السجدة

*** إنّ الخوف من الله عبادة يمارسها ويتقنها جميعُ خلقه ممّن نعلم وممّن لا نعلم . هكذا يُخبرنا الله في كتابه الكريم أنّ ملائكته وكافّة ما خلق في الأرض يسبح له خشية ومهابة  . يقول تعالى :

"  ويُسبّحُ الرعدُ بحمده والملائكةُ منْ خيفته " 13 / سورة     الرعد

** ويخبرنا الله في آياته أنّه - من رحمته - يستنفر فينا الخوف منه ، ويوقظ فينا خشيته ، فيرسل الرسل والآيات ، ويثير الرعد والبرق ويرينا دلائل قوته لنصحو منْ سُباتنا وندرك أنه - وحده القوي المهيب الأحق بالخشية والخوف . يُرينا قوته وبطشه حين تتقلب الطبيعةُ بين يديه ، فتثور البراكين الخامدة ، وتهيج البحار والمحيطات ، ويفيض الماءُ فيغرقُ ، أو يغيضُ فيُهلك ، وتدكُ الزلازل البيوت العامرة المستقرة الآمنة ، ويأتي الكسوف والخسوف لينبّهنا إلى أن التزام القمر والشمس بمسارهما ومهمتهما في الكون إنما هو بأمر الله ورحمته ، وليس تحصيلا لأمر حاصل دون تدبير خالق عليم ... ينبهنا الله بالجوع والموت والمرض والابتلاء في الصحة وتغير الأحوال من الدعة إلى العوز ، ومن الجاه إلى الانطفاء والتواري في دروب الحياة ، يبيدُ  دولاً  وشعوبا ، ويرينا آياته في الآفاق عسى أن ننتبه إلى عظمته وقدرته ، واستطالته وهيمنته ، عسى أن نقدره حق قدره  ؛ فنخافه ونخشاه ونهابه ، ومن ثم نلزم الطريق المستقيم فتعتدل دفّة حياتنا ونأمن بالخوف منه من شرور الدنيا والآخرة .  يقول تعالى :

" هو الذي يُرِيكُم البرقَ خوفاً وطَمعا ويُنشيءُ السّحابَ الثّقالَ " 12 / سورة الرعد
" وما نُرسلُ بالآياتِ إلاّ تخْويفا " 59 / سورة الإسراء


 
  *** إن الخشية من الله - سبحانه - والخوف منه والاستقامة على طريقته وصراطه هو المدخلُ الوحيد للخلاص في الدنيا من آلام الدنيا ، ونواقص الدنيا ، وفواجع الدنيا ... هو النجاة  من  إذلال الحياة الدنيا لنا  بـ الحزن  عليها ، والخوف منها .
 ** يهدينا اللهُ تعالى هذه البُشرى بصفقته الرحيمة في آياته الكريمة . ويعرضُ  تفاصيل الصفقة الجليلة :
                       الاستقامةُ منَّا ...
                        الأمنُ منه ...
                        الخوف منه ... مقابل النجاة من خوف الدنيا
يقولُ تعالى :
" إنَّ الذين قالُوا ربُّنا اللهُ ثمّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألآّ تخافوا ولا تحزنوا وأبْشِروا بالجنّةِ التي كُنْتُم تُوعدوُن "  الآية 30 / سورة فُصِّلتْ
ويصف الله  العاقبة الحسنة للذين أحسنوا إلى أنفسهم بالإيمان وخشية الله ، يصفُ نجاتهم من فزع الآخرة ، ومن الهول الأكبر . يقول :
 " لا يَحزنُهُم الفزعُ الأكبرُ وتتلقّاهم الملائكةُ هذا يومكُم الذي كُنْتُم تُوعدون " 103 / سورة الأنبياء .

      * إنّ الأمن والسكينة سمةُ المؤمنين لأن ربهم وعدهم
        بالخلاص من فزع الدنيا وفزع الآخرة ؛ ولذلك يخاطبُ الله
         عباده المُخلصين له بألا تستدرجهم الحياة الدنيا ، وألاّ
         تخدعهم بغرورها العابر فتثير فيهم سرورا أو حزنا
         نابعا منها ، أو مُتعلِّقا بمجرياتها ؛ إذ لا يكون لعباد الله
          أن تستهويم الدنيا ، ولا أن تستذلهم بمسراتها ، أو
          بأحزانها العابرة . يقول تعالى :
         " ولا تَهِنُوا ولا تحزنُوا وأنتُمُ الأعْلَون إنْ كنتم مؤمنين "
           139/ سورة آل عمران
* ينهى اللهُ عباده الأخيار عن حزن الدنيا ولهوها لأنّ الحزنُ صناعة الشيطان وبضاعته التي يروّجها وسط أولياءه التابعين له ، الضّائعين في دروبه المُظلمة التي لا توصل إلآ إلى الضياع والبدد والعدم ... يقولُ تعالى مُحذّراً منه "
" إنّما النجوى من الشيطانِ ليُحزنَ الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن اللهِ وعلى اللهِ فلْيتوكّلْ المؤمنون " 10 / المُجادلة

             ** وكما أنّ الأمن والسكينة إثابةٌ من الله لمن يخشونه
                  ويمتلئون بالخوف منه ، كذلك فإنّ التخويف و
                  الترويع واستلاب الأمن والسكينة من الصدور
                  عقابٌ إلهيٌ يُصيبُ به الله منْ نسيه ، ولم يُقدره
                   حق قدره ... يصيبُ به الذين لم تتذوّق قلوبهم
                   لذائذ الخوف منه ، وجلال خشيته ، وجميل
                   مراقبته والائتناس به ... يقولُ تعالى :
                 " وضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانتْ آمنةً مطمئنةً يأتيها                  رزقُها رغداً من كلّ مكانٍ فكفرتْ بأنْعُمِ اللهِ فأذاقَها
                   اللهُ لِباسَ الجُّوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعون "
                   الآية 112 / سورة النّحل
لنتأمّل هذه القرية ...لنتأمّل الحالين الذين مرّت بهما ... لقد مرّت بطورين ، أو بحالين :
                  كانت : آمنة ... مطمئنة ...رَغِدة ... مُنعّمة
                  صارتْ : منزوعة النعمة ... مُخوّفة ... فزعة !
وقد انتقلت هذه القرية من حالها الأول إلى مصيرها المؤلم بسبب كفرها بأنعم الله  ، فكان كفرُها هو الجسر المأساوي الذي انتقلت به من الرغد إلى الجوع ، ومن الأمن إلى الخوف ... وكان عقاب الله لها شديدا ؛ وصفه اللهُ بــ لباس الجوع والخوف ... واللباس كساء يسربل الكيان أو الجسد ويغطيه ويشمله ، وهكذا كان فزعهم وجوعهم وعوزهم .



** ربّنا إنّك تعلم منّا ما لانعلمه في أنفسنا ، تُدركُ السّر والعلن فينا ... وتطّلع على خائنة الأعين ، وأسرار الروح ، تعلم السرّ والجهر وما يخفى ... تُحيطُ بالضّعف الكامن فينا ... هذا الضعف الذي يودي بنا إلى التّهلكة ، ويستدرجنا إلى متاع الحياة الدنيا وغرورها الباطل الزائل الذي لا ينفك في صراع معنا ، ومع أرواحنا التي تميل إليك وتأنسُ بك ، ولا ترضى عنك بديلا ... أرواحُنا تهابك وتخشاك وتُجِلّك وتؤمن بك وكأنّها تراك ... فهي تراك في ذاتها ... وفي أنوارها التي تبرق وتومضُ كلّما سارت على نهجك المستقيم ، والتي تُظلم وتؤلم وتفتّت الكيان كلّما حادت عن هذا النهج القويم ... وإن سطوع النور عند الاستقامة ، وغلبة العتمة عند المعصية دليل عظيم في حد ذاته دالٌ عليك ... ودالٌ على أنك الله حقّا وأنّ كتابك حق ، ورسولك حق ... والموت حق ... ، والبعث حق ... والملائكة حق ... وأنت النور الحق ... أنت أحقُّ الحق ... وأنت وحدك الحقيقة الساطعة في أنفسنا التي ننجو إذا ما هفت إليها أرواحنا ولمحت من سناها وضيائها شيئا ... أنت الحقيقة الوحيدة التي نضيعُ إذا ما أعتمت أرواحنا فغاب عنّا بهاؤك ، لأننا بالمعصية نتجرّد من شرف القدرة على لمح سناك ونورك ...





ربّنا : إننا ظلمنا أنفسنا ؛ وإنْ لم تغفر لنا نكنْ من الهالكين ؛ فلا تَكِلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا تكلنا إلى الحياة الدنيا تلهو بنا ، وتستدرجنا إلى المآل الحزين ...
اللهم دعّمنا بنورك وبرضاك ، أرنا الحقّ حقّا وارزقنا اتّباعه ... وأَرِنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ... اللهم أشرق على أرواحنا بنورك ، وامنحنا من سنا ضياك ما يُوقظ فينا البصيرة البيضاء التي لا ترضى بغيرك وبغير طريقك المستقيم ... اللهم نجّنا من فزع الدنيا وأهوال الآخرة والفزع فيها ، ولا تحرمنا من الخوف منك ، بل أسبغ علينا الخشية منك ، والمهابة من وجهك ، والحياء من أن ترانا في ما تكره لعبادك الصالحين ... ونجّنا ممّا نعلم وممّا لانعلم ، وممّا نخاف وممّا لانخاف أو نحتسب ، وكُنْ جاراً لنا من جميع عبادك من الجنّ والإنس ، وكنْ جاراً لنا من أنفسنا ، ومن دنيانا ... نعوذ بك من همزات الشياطين ونعوذ بك ربّي أنْ يحضرون ...
 اللهم اجعلنا ممّن أنعمت عليهم بلباس الأمن والرضا والسكينة ، ومن الذين لا يهنوا ولا يحزنوا ، والذين هم الأعلون ... فإنك تعلم ولا نعلم ، وتقدرُ ولا نقدر وأنت علاّم الغيوب ... يا أقرب إلينا من حبل الوريد ... ياودود ياودود ياذا العرش المجيد يافعّالا  لما يريد ..  ياحيّ يلقيّوم برحمتك نستغيث .


                                                بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح





      

تعليقات