لا تقربا هذه الشَجَرَةَ ...

**   زينة الحياة هي متاع الغرور الكاذب ، الجاذب إلى الحياة ، والدافع إلى تحمل مراراتها ... الزينة هي مجموع النِّعم التي وهبها اللهُ لنا ، وجعلها في أنفسنا وكياننا وأبداننا  ، كما وهبنا النعم في الكون المُسخّر لنا ، وفيما يسّره لنا من فنون الرزق وألوانه .
الزينةُ هي المُستثيرُ لغرائزنا ، بل هي أساس هذه الغرائز ... 
     ** ومن هنا نقول : إنّ الزينة تقوم بتنشيط الحياة الإنسانية 
          من جهتين : 
              - إثارة الغرائز الإنسانية ، وإشباعها  . 
              - تحفيز الجهاد والمقاومة لهذه الغرائز . 

** وهكذا تبدو الحياة الإنسانية رحلة سعي حائرٍ ، ومرهق وشاق بين هاتين الجهتين : الرغبة في إشباع الغرائز ، ومحاولة كبح جماح هذه الغرائز والحد من طغيانها ، وهيمنتها ، وسُعارها ... تبدو الحياةُ الإنسانية رحلة خاصة بين هاتين الجهتين حتى يصل الإنسان إلى المصير الذي يتحدد  وفق الجهة التي اختارها الإنسان في سعيه : سواء اختار إشباع الغرائز والانقياد لها ، أو اختار تهذيب الغرائز وقيادتها بقوة العقيدة ، وحكمة البصيرة ، ونور العقل المؤمن ... 
إنّ القائد في هذه الرحلة هو الذي يحدد المصير ؛ فإذا كان الإيمانُ هو القائد كان المصيرُ الإنساني ناصع الضياء والبهجة ، وإذا كانت الغرائز هي قائد الحياة الإنسانية في الدنيا كان المصيرُ معتما ... مؤلما ... مأساويا كأشد ما تكون المأساة ، بل هكذا تكون المأساة ...   

** زينةُ الحياة الدنيا هي النعمة المُهداة ، ووهي مضمار الجهاد للنفس الإنسانية ، هي مكمن الابتلاء ، ومنزلق الخضوع للغرائز ، وهي الطلاءُ البهيج الذي يستر حقيقة الحياة وقبحها ...

** الزينة  هي الوعدُ الزائف الخلاب للإنسان بكل ما يشتهي في الحياة ، وهي الوعد له بكل ما يدفعه دفعا إلى الرجاء في الحياة والتأميل فيها ، وانتظار الغد الذي قد يأتي ، وقد لآ ... ، لكن هذا الغد المرجو يؤنسنا ، ويدفئ أرواحنا بانتظاره وترقب أنواره ، يؤنسنا بوميضه في أحلامنا ومنامنا ويقظتنا ، ويدفعنا - ونحنُ في قمة الألم - إلى أن نتوكأ عليه - على هذا الغد - محتملين مراراتنا ومكابداتنا  ، أملا في قادمٍ بهيج وثمر يانع ، وغيث جميل !



** الزينة في الطرح القرآني تدل على النعمة والبهاء والحياة حين توصف بأنها عطاءٌ من الله ، أو حين تعرضها الآيات باعتبارها إحدى نعمه في الحياة الدنيا . وذلك كما في قوله تعالى :
" ولقد زيّنا السماءَ الدّنيا بمصابيحَ وجعلناها رُجُوما للشياطين " سورة المُلْك / الآية 15
وقوله تعالى :
" أفَلم ينظروا إلى السماءِ فوقهم كيفَ بنيناها وزيّناها "
سورة ق / الآية 6
وقوله تعالى "
" قُلْ منْ حرّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعباده والطّيباتِ من الرزقِ " سورة الأعراف / الآية 32  
كما يأمرُ اللهُ عباده المسلمين بالتزام الزينة عند المساجد ، لأنها مظهر بهيج للإسلام وإعزاز لأهله ...
ويمنُ اللهُ على عباده المؤمنين بأنه قد زيّن إليهم الإيمان ، كما في قوله :
" ولكنّ اللهَ حبّبَ إليكم الإيمانَ وزيّنه في قلوبكم "سورة الحجرات / الآية 7  
هكذا تتخذ كلمة " الزينة " في القرآن الكريم  في هذه السياقات - وأمثالها - معنى المتعة الحلال ، والبهجة ، والقوة والرزق الطيب المباح ، والنعمة المرجوة ، والمهداة من الله لعباده ...
لكنّ مفردة " الزينة " تتخذ في الآيات القرآنية دلالات مختلفة ، حين تُنسب إلى الحياة الدنيا ، وحين لا توصف بأنها هبة من الله ... في مثل هذه السياقات تتخذ هذه الكلمة معاني مختلفة ، كما أن الطرح القرآني يعرضها عرضا مختلفا يتخذ هيئة التحذير والإنذار والترهيب ...!
** طرحَ القرآنُ الكريم قضية زينة الحياة الدنيا طرحا رائع العمق والغوص في دهاليز النفس الإنسانية . طرح هذه القضية طرحا دراميا بوصفها العدو الرابض على أبواب النفس الإنسانية ، بوصفها العدو الرابض الكامن ، والذي ينشط بنشاط توجهنا إليه ، وتشتد قوته بضعفنا ، ويضعف بقوة إيماننا واكتشافنا زيفه !
يصور القرآنُ الكريم زينةَ الحياة الدنيا بوصفها الإغواء الأشد للنفس الإنسانية رغم أن هذه الزينةَ هشّةٌ ... زائفةٌ ... عابرةٌ ...  يقولُ اللهُ تعالى :
" وما أُوتِيتُم منْ شئٍ فمتاعُ الحياةِ الدّنيا وزينتُها "
سورة القصص / الآية 60
ويقولُ سبحانه واصفا مدى استدراج هذه الزينة للإنسان ، ومدى اقتدارها عليه :
" زُيِّنَ للناسِ حبُّ الشهوات من النساءِ والبنين والقناطيرِ المُقنطرةِ من الذّهبِ والفضّة والخيلِ المُسوّمة "
سورة آل عمران / الآية 14

** ومثلما يصفُ المولى - سبحانه - فنون هذه الزينة واستلابها عقل الإنسان ، وانتزاعها عقله ومقاومته ، يكشف المولى - سبحانه - للإنسان هشاشة هذه الزينة ، وأنّها غيرُ حقيقية ، وأنّها عبارة عن قشرة خارجية للحياة زيّنها اللهُ بها ليجّلها لنا ، وليُعيننا على العيش فيها بما يمكننا من عبادته ، كما يؤكد - سبحانه - أن هذه الزينة ابتلاء منه يميز به المؤمن من الكافر ، والغثّ من السمين ، والطيب من الخبيث من خلقه ... إنّها الابتلاءُ بعينه ، إنها الرمال الناعمة التي يغوص فيها كلٌ منّا ، وتكون درجةُ غوصه على قدر ضعفه أمام هذه الزينة  .
يقول تعالى كاشفا حقيقة هذه الزينة :
" اعْلَمُوا أنّما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم "
سورة الحديد / الآية 20  

**  ورغم أنّ زينة الحياة الدنيا قشرةٌ زائفة ، واهية ، مؤقتة تنتهي بموت الإنسان ورحيله ... - رغم كل ذلك -  إلا أنها استطاعت أن توقع الكثيرين في أسرها ، وأن تسجنهم فيها ، وأن تقنع الكثير منّا بأنها الأجدر بتفكيرنا وانشغالنا ، وأن تقنعنا بأن الحياة الدنيا هي دار الخلود والمستقر ، وهي البداية والنهاية ، وهي مقر الروح الأخير ...
** هذه الفئة المفتونة بزينة الحياة الدنيا  همُ الأسرى ، لكنهم أسرى من نوعٍ خاص ومؤلم ومحزن ؛ فهم ليسوا أسرى حرب أو جهاد أو قضية نبيلة ، بل هم أسرى شهواتهم  ، كما أنهم  غير مقيدون بالأغلال التقليدية ، بل تقيدهم أهواؤهم المفتونة بالحياة ، وهم لا ينتظرون  الفكاك من الأسر لا من طريق المنّ ، ولا من طريق الفداء ، ولا من طريق تبادل الأسرى ذلك لأنّ أسرهم بأيديهم ، وقيودهم معهم ، وأمر فكاكهم يتوقف على مقدار قوتهم في  التغلب على فتنة هذه الشهوات وهذه  الزينة . إنّ هؤلاء الأسرى غارقون - إلى الثمالة - في الوقوع في أسر هذه الزينة ، و، وهم غافلون إلى حد الجنون في التغافل عن حقيقة هذه الحياة الدنيا ، مستميتون إلى درجة تثير الحنق - والإشفاق معا - في محاولة إثبات استحقاق هذه الحياة للتعلق بها وإكبارها دون غيرها ... ! ومن هنا يشيع في الطرح القرآني الربط بين التعلق بزينة الحياة الدنيا وبين الكفر ... يقولُ تعالى :
" زُيِّنَ للذينَ كفرُوا الحياة الدُّنيا " سورة البقرة /  الآية 212
بهذا الطرح القرآني العميق - الذي يثبت أن هذا الكتاب الكريم من لدن حكيم عزيز - يتضحُ لنا أنّ غواية الحياة الدنيا ليست كامنة فيها هي في حدّ ذاتها ، بل كامنة في كيفية نظرنا نحنُ  إلى هذه الحياة : فمنّا من ينظرُ إليها بالقلب المشغوف بها ، الملهوف عليها ، وهذه نظرة الأعمى الذي لايرى حقيقة الدنيا من شدة إقباله عليها ،وولعه بها ... وهذا العماء - إن استمر - يؤدي بصاحبه إلى الكفر فيُبعث في الآخرة أعمى مثلما كان في الحياة الدنيا لايرى الحقيقة ، ولا يصل إلى المغزى والهدف من وجوده .
وهناك منْ ينظر إلى الحياة بعين العقل الذي هذبه الإيمان ، واكتسب الحكمة من تدبّر آيات الله ؛ فأدرك أنّ هذا البريق ... هذا البريق والذي اسمه الحياة الدنيا زااائل ... عاااابرٌ ... مُضللٌ ... مُهلكٌ ... وأنّ هذا البريق المتجسّد في الفتن والغوايات والشهوات لم يُخلق لذاته ، بل خُلق لغاية أعظم منه ، غاية لا يدركها إلا أولُو الألباب ... المتدبرون ... الثابتون أمام الفتنة - فتنة الخير وفتنة الشر - ومثل هؤلاء يمتلكون من ثبات الإيمان ، ومن حكمة العقل ، ومن بصيرة القلب ما يجعلهم يدركون القيمة الزهيدة لزينة الحياة الدنيا ... هؤلاء يمتلكون من الحكمة ما يجعلهم يؤثرون الحياة الآخرة على الدنيا ... يشترون الخلود والنعيم المقيم ... النعيم الحقيقي غير الزائف ... هؤلاء هم المبصرون حقّا لأنهم يمتلكون بصيرة نافذة وقلبا صافيا رائياً ...
                                  **  زينةُ الحياة الدنيا ليست حقيقتها
                        ولكنها غواية كامنة فيها ،
                        وابتلاءٌ يمحّصُ اللهُ به عباده
                        وفتنة تُبارزُ منْ يوقظها
                         ولعنة تلاحقُ من يطلبها
                         وجحيمٌ مسطورٌ في كتاب الأشقياء

العالقون في الزينة :
اشتمل التارخ الإنساني على كثيرٍ من النماذج التي سقطت في أفخاخ الزينة والغواية ، واستهوتها الفتن وأدرات عقلها ...
ولعلّ آدم - عليه السلام- أول من استهوته الغواية ، وأتاه الشيطان من زاوية الزينة فأغراه بها ، وحرّضه على طلبها بمعصية الله ، فسطر آدم بهذه المعصية أول سطر في تاريخ ضعف الإنسان أمام الغواية ... ولنتأمّل آيات الله وهي تقص علينا أطراف هذه المأساة الخالدة - الخالدة في أذهاننا والخالدة بتكرارها - يقول تعالى في سورة البقرة :
" وقلنا يا آدمُ اسكُنْ أنتَ وزوجُكَ الجنّة وكُلا منها رغداَ حيثُ شئتُما ولا تقْرَبا هذه الشجرةَ فتكُونا من الظالِمين " الآية 35
ولنتأمّل كيف قطع اللهُ الحجّة على آدم وزوجه ، وذلك في قوله :
                      " كُلاَ منها رغداً حيثُ شئتما "
فأنعمَ عليهما بنعمتين عظيمتين ، هما :
                        - الرّغد : أي الرخاء ، والوفرة في النّعم .
                         - الحرية ( حيثُ شئتما )
ومقابل هذا السخاء الإلهي الباذخ أمرهما اللهُ بشئ واحد ، هو : ألاّ يقربا شجرة بعينها من مجموع شجر الجنة الكثير البهيج المتنوع ... إنها شجرة واحدة ممنوعة والمُتاح وفير ... إنها شجرة واحدة مُحرّمة والمباحُ كثير ...
لقد أمرهما اللهُ ألاّ يقربا الشجرة ... حرّم عليهما مجرد القرب من الشجرة ؛ لأنه -سبحانه- وهو الأعلم بمن خلق يدرك  أن مجرد القرب سيؤدي إلى ما بعده من خطوات المعصية ... أو أنّ مجرد القرب سوف يُغري بإتمام طريق المعصية -  وهذا هو النهج الإلهي دائما ، كما في قوله تعالى : " ولا تقربوا الزِّنا "  -
فماالذي كان ينقص آدم وزوجه ؟ ماحُجّتهما في المعصية ؟
لماذا اقتربا ... ؟! لماذا ؟
يقولُ تعالى :
" فأزلّهُما الشيطانُ عنها فأَخْرَجَهُما ممّا كانا فيه وقُلنا اهبِطُوا بعضُكُم لبعضٍ عدوٌ ولكم في الأرضِ مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حين "
سورة البقرة / الآية 36
ويقولُ تعالى في سورة "طه " :
فقُلنا ياآدمُ إنّ هذا عدوٌ لك ولزوجِكَ فلا يُخْرِجنّكُما من الجنّة فتَشقى 117) إنّ لكِ ألاّ تجوعَ فيها ولا تَعرى 118) ووانّك لا تظْمأُ فيها ولا تضْحى 119) فوسوسَ إليه الشيطانُ قال ياآدمُ هلْ أدُلُّك على شجرةِ الخُلدِ ومُلكٍ لا يبْلى 120) "
إذن : هذا ماحدث : لقد أغراهما الشيطانُ بالمفقود عن الموجود ؛ أنساهما النعم الموجودة وأشعرهما أن النعمة الغائبة - وهي الشجرة الواحدة الممنوعة - هي الأهم ، وهي اللازمة لتتحق السعادة المرجوة والأماني البعيدة ...
سبحان الله : لقد استطاع الشيطانُ أن يقنع آدم وزوجه أنّ هذه الشجرة الوحيدة أهم من جميع الشجر المحيط بهم ، وأنها هي وحدها النعمة المفقودة ، ومن ثمّ أقنعهما بأن وجودهما شقيٌ ناقص تعيس تنقصه هذه الشجرة ! فقط هذه الشجرة ...!
ولكن ... ماإنْ اقتربا منها وعصيا أمر ربّهما حتى انكشفتا أحابيل الشيطان ، وبدا لهما ما أوقعهما فيه ، فلقد تسبب الشيطان آدم وزوجه بأن فقدا :
                 - مكانتهما في الجنّة ؛ حيث أمرهما الله بالهبوط ...
                 -الأنعم الموجودة في الجنة ( الرغد ) ...
                - الحرية التي صوّرها اللهُ في قوله " حيث شئتما "
وصف الله ضعف آدم  أمام غواية الشيطان التي عظّمتْ شأن هذه الشجرة ...وصفه في قوله :
" ولقد عَهِدنا إلى آدمَ من قبلُ فنَسِيَ ولم نجدْ لهُ عزما "
سورة طه / الآية 115

                       



** ومثلما ضعف عزمُ آدم عليه السلام أمام غواية الشيطان وإغواء الشجرة يتهاوى كثيرٌ من أبناء آدم أما زينة الحياة الدنيا ، مع فارقٍ عظيم بينهم وبين آدم - عليه السلام ، هو : أنّ آدم تلقّى من ربه كلمات فتاب عليه ، بينما يظل بعضُ بني آدم عالقاً في زينة الحياة الدنيا إلى أنْ تنتهي رحلته فيها ، وهو مصرٌ على عمائه ، متشبثٌ بالفخّ الذي أوقعه في مصير معتم ...

** من النماذج الإنسانية التي صوّرها القرآنُ الكريم عالقة في الزينة، هاوية في أشراكها : قارون ...
لقد خرج على قومه في زينته الغاوية ... خرج في لحظة كان يوقنُ فيها أنه قد أوتي كل شئٍ في الحياة ... بل أوتيَ الحياةَ ذاتها...خرج في لحظة - أظن أنه - شعر فيها بتخمة النعمة ، وفقد توازنه من بهجة النعمة وطغيانها ... لم يحتمل ... لقد أدرا رأسه ما هو فيه من غنىً فاحش وثراء لا يُصدّق ، وبأسٍ وقوةٍ وسلطةٍ ... دار رأسه ، ولعب به الغرور ، فأراد استعراض النعم ، وأن يشعر بمزيد من الزهو حين يعرض نعمه على أعين من هم أقلّ منه شأنا وعزّا وغنىٍ ...  خرج قارون على قومه في مهرجان زينته  ؛فانقسموا أمام زينته إلى قسمين :
الأول : قسم مفتون بهذه الزينة وهذا البهرج يتمنى لو يمتلك نظيره ...
الثاني : قسم المؤمنين الذين أدركوا - في التوّ والحال - مأساة قارون وأنه واقع في ابتلاء واختبار عظيم ، وأنّه في هذه اللحظة يومضُ ويبرقُ ويضئ مثل النجم قبل الأفول ... إنه الضوء الأخير ... وإن هذه الزينة لا معة لأنه لمعانها الأخير قبل الانطفاء  الأعظم ...! ولقد ثبت هؤلاء وقرأوا - ببصيرتهم - الرسالة الإلهية والنذير والعظة الإلهيين في المظهر الخلاب الفاتن لقارون وزينته ...!  يقول تعالى :
" إنّ قارونَ كانَ منْ قومِ فرعونَ فبغى عليهم وآتيناه من الكنوزِ ما إنْ مفاتِحُهُ لتنوءُ بالعُصبةِ أُوليِ القوةِ إذْ قالَ له قومُه لاتفرحْ إنّ اللهَ لا يحبُّ الفرِحين 76 ) وابتغِ فيما آتاكَ اللهُ الدّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَكَ من الدُّنيا وأحسنْ كما أحسنَ اللهُ إليك ولا تبغِ الفسادَ في الأرضِ إنّ اللهَ لا يحبُ المُفسِدين 77 ) قال إنّما أُوتيتُه على علمٍ عندي أو لمْ يعلم أنّ اللهَ قد أهلكَ مِن قبلِه من القُرونِ منْ هو أشدّ منه قوةً وأكثر جمعاً ولا يُساَلُ عن ذنوبهِم المجرمون 78 ) فخرج على قومِه في زينتِهِ قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليتَ لنا مثلَ ما أُوتِي قارونُ إنّهُ لذُو حظٍ عظيمٍ 79 ) وقالَ الذين أُوتوُا العلمَ ويلَكُم ثوابُ اللهِ خيرٌ لمِنْ آمنَ وعملَ صالحاً ولا يُلقَّاها إلاَّ الصّابرُون 80 ) فَخسَفْنا بهِ وبدارِه الأرضَ فما كان له منْ فئةٍ ينصرونه دون اللهِ وما كانَ من المنْتصرين 81 ) سورة القصص

*** كذلك كان حال فرعون ... يقولُ تعالى :
" وقال موسى ربّنا إنّك آتيتَ فرعونَ وملأَهُ زينةً " سورة يونس / الآية 10  
ولقد كانت الزينة والنعمة المعطاة لفرعون مدخله إلى الفتنة ، ومدخله إلى " تزيين الشيطان " الباطل له فطغى وتكبّر ونسي طبيعته البشرية الضعيفة الواهنة ، وأعلن نفسه إلها على قومه ، وأصمّ أذنيه عن الحق لمّا جاء به موسى - عليه السلام - يقول تعالى :
" وكذلك زّيَّنَ لفرعونَ سوءُ عملِه وصدَّ عن السّبيلِ " سورة يونس / الآية 11
يتكرر هذا المشهد الإنساني المؤلم ... تتكرر هذه المأساة الإنسانية -  وهي الوقوع في أفخاخ الزينة- عبر التاريخ ، يقًصها الله علينا في آياته الكريمة ، ويظهرُ لنا كيف أنّ اللاحقين لم يتعظوا بالسابقين ، بل بدا الأمر وكأن كل جيل إنساني يبدأ تجربته مع الحياة من جديدٍ دون خبرة سابقة ، ودون عظة أو عيرة قائمة تهدي إلى سواء السبيل ...
لقد كانت غواية الحياة الدنيا مهلك قوم عادٍ وثمود وقوم " بلقيس " وغيرهم من الأمم والأقوام ... كانت فتنة الحياة الدنيا بمثابة المهلكة أو المحرقة التي أحرق بها الإنسان ذاته بوعي وإرادة كاملين ... نعم بوعي وإرادة لأنّ زيف الحياة واضح بيّنُ لنا في سيرة من قبلنا .., بل في أنفسنا وتغير أحوالنا ، وتحولنا من العافية إلى الضعف ومن الرغد إلى الحاجة ، ومن الفتوة إلى الوهن ، ومن الشباب إلى الشيبة ... فأي حياة دائمة لنا ؟ وكيف نصدق إذن أن زينة الحياة حقيقية ؟!
يقولُ تعالى واصفا هلاك الأمم بالغواية ، وحمق الإنسان الذي يعيش في تاريخ مكرور ، متشابه الخطأ والمأساة :
" وعاداً وثموداً وقد تبيّنَ لكم من مساكنٍهم وزيّن لهم الشيطانُ أعمالهم " سورة العنكبوت / الآية 38
ويقول - سبحانه - واصفا حال قوم بلقيس :
" وزيّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم " سورة النمل / الآية 24
كذلك كان حال صاحب الجنتين - في سورة الكهف - حين فقد توازنه مما أنعم الله به عليه . يقول تعالى :
" ودخَلَ جنّته وهو ظالمٌ لنفسه قالَ ما أظنُّ أنْ تبيدَ هذه أبدا " الآية 35
بل لقد أوصلته الفتنة إلى إنكار البعث والكفر بالله .. يقول تعالى :
" وما أظنّ الساعةَ قائمةً ولئنْ رُدِدتُ إلى ربِّي لأجدنَّ خيراً منها مُنقَلبا " الآية 36

*** زينة الحياة الدنيا شغلُ الشيطان وهمّه القائم ومدخله الذي يستدرج به الإنسان من حظيرة الإيمان والامتثال لله إلى حظيرة الفتنة وسعار الشهوات ، والانفلات من الهدف الذي خلقنا الله له ، وجهّزنا لأجله ، وزوّنا بمتاع الحياة الدنيا لنستعين بهذا المتاع على عبادته ، ولكي نختبر بهذا المتاع فيتضح فينا ، ويبدو منّا الغث من السمين ، والطيب من الخبيث ، والشاكر من الجاحد ، والمؤمن الكافر ، والقوي من الضعيف ...
لقد جعل الشيطان عمله الأساس في الحياة  النيا هو إلهاؤنا بزينتها ، وشغلنا بغوايتها ، والوسوسة إلينا بهذه الزينة وهذه الفتنة الباطلة الزائفة حتى يصيبنا دوار الفتنة ، وتستحوذ الحياة على حواسنا وبصيرتنا فيصيبنا العطب والعطن والتلف والهلاك ... إن هذا هو الشغل الشاغل للشيطان كما حذرنا المولى في كتابه، وساق لنا خطة الشيطان التي أعلنها لربّه وأظهر فيها موقفه الحاقد الكاره للإنسان ، وكأنه - بل إنه - يكرّر معنا فعلته مع آدم وزوجه ... يقول تعالى - يسجل خطة الشيطان - :
" ربِّ بما أغويتني لأُزيّننّ لهم في الأرض "
 سورة الحِجر / الآية 39
إن الطريق الوحيد لمواجهة غواية الشيطان التي تعملق لنا زينة الحياة الدنيا هي أن نُعظّم قدر الله في نفوسنا ، فيتعملق إيماننا ... وهنا فقط يتضاءلُ كل شئ بجوار هذا الإيمان ... تهون الحياة الدنيا ... يهون قدر الزينة ... تنطفئ نار الشيطان الحارقة والتي تبدو للجاهلين والبعيدين عن الله نورا ... ليس لنا من مهرب أو ملجأٍ إلا طاعة الله ... فلنستدرك ، ولنفعل ما كان يجب أن يُفعل من قبل ، وهو : ألاّ نقرب هذه الشجرة ...
                    لا تقربا
                         هذه الشجرة
                          لا تقربا
                    هذه الــ  ...
                                شجرة



                                        بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح                     

تعليقات