تاريخُ الإنسانِ : يومان

** قديماً قالَ الشاعرُ الأندلسيُّ :
جادَكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى          يــازمانَ الوصلِ بالأندلسِ
لمْ يكُن وصلُكَ إلاّ حُلُما في الـ        كَرى ، أو خِلسَةَ المُختَلِسِ

*** استوقفني هذا البيت كثيرا  في موشحة الشاعر  " لسان الدين بن الخطيب " وجذبني إلى أنْ أتابع قراءة بقية الموشحة فإذا هي مرثية  لأحلام الصبا وأيام السعادة  ، إذا بها مرثية للآمال وكل ما كان يرجوه الشاعرُ  من  الحياة ... مرثية مُوجعة لما تذوقه من فتنة الحياة وجمالها وفتوّتها ، ولما كان يرجو أن يدوم ويستمر ... لكنّ الرجاء لا يطيلُ عمر الأشياء ولا يستبقيها ، فللأحلام والأماني أعمارٌ تنتهي مثل أعمار الإنسان تماما .......  وللشباب والفتوّة والسعادة والصبّا أعمار ... وكلُ شئ في الحياة  يتربص به الموت ، ويتعقّبه الفناء ... ولكل شئ ولكل كائن قدرٌ يناله ويصيبه ، وليس من المقادير فرار ... 

  ** وقفتُ طَويلا عند هذا الوصف الواقعي المؤلم للحياة الإنسانية ، هذا الوصفُ الذي يؤكد أنّها عابرة ... مؤقتّة ، زائفة
وشدّ انتباهي  هذا التطابق بين إحساس الإنسان بالحياة وبين وصف القرآن الكريم لها ... إنه تطابق يؤكد صدق هذا الكتاب الكريم ، وأنه من خبير حكيم - سبحانه !

فالشاعرُ الأندلسي الذي مررنا ببيته الشعري منذ قليل ليس الوحيد الذي وصف الحياة بأنها عابرة ، وليس الوحيد الذي أدرك أنّ الأحلام تمرُ وكأنها اختلاس المُختلس : سريعة ، خاطفة كالبرق ... ليس هو الوحيد الذي أدرك أنّ الحياة بكلِّ ثقلها الإغوائي - الإغرائي - بكل فتنتها ... فتونها ... جنونها ... همومها ... تنغيصها وكدرها ، ليست إلا لمحة ، وومضة تخطف أبصارنا للحظة ثم تنطفئ ، ولا يبقى فيها شئ إلاّ هذه الظلال والألوان الشبحية التي تبقى في العين بعد أن تتعرض لنور مبهر شديد ... هكذا هي الحياة ...
** هكذا هي الحياة في الطرح القرآني ... وهكذا هي في إدراك أصحاب الفكر والرؤى والبصيرة من الحكماء والفلاسفة والمبدعين والمُتأمّلين الذين رأوها بالبصيرة لا  باالعين  ، ورأوا حقيقتها وراء حجابها الزائف ، وحيلها الاستدراجية الغاوية التي تنتهي بنا إلى أعمق وأعتم هاوية ...!



***لا يتعدّى عمرُ الحياة الإنسانية في تقدير الله - سبحانه - يوما واحدا - أو بعض يوم - الحياة الدنيا بكل مافيها من عذابٍ وعذوبة ، من أحلام ومرارات هي يومٌ واحد في تقدير المولى ... هكذا يصفها - سبحانه - في القرآن الكريم ... يقولُ تعالى :
" يسألونَك عن السّاعةِ أيّانَ مُرْسَاها 42 ) فيمَ أنتَ منْ ذكراها 43  ) إلى ربِّكَ مُنْتهاهَا 44 ) إنَّما أنتَ مُنْذِرُ منْ يخْشاها 45 ) كأنَّهُم يومَ يرَوْنَها لمْ يلْبَثُوا إلاَّ عشيَّةً أو ضُحَاها 46 )
سورة " النازعات "

تجربة الموت والبعث قبل الموت والبعث :


** لقد أنعمَ اللهُ على بعض عباده من الأنبياء والصالحين بمعاينة الموت والبعث في الحياة الدنيا ... أنعم اللهُ على هؤلاء بما يشبه التجربة العملية والمُشاهدة لكيفية الموت والفناء ثم البعث من بعد الخمود ، ثمّ استخلص منهم وصفهم للحياة الدنيا ، وجعل تجربتهم شاهدا على  وجوده  ،و قدرته ، شاهداً على أنه حقٌ ، والموتُ حقٌ ، والبعثُ حقٌ والقيامة حقٌ ، - ومن ثم - فالرسلُ حقٌ والرسالات حقٌ ، فكانت  تجربة هؤلاء الصالحين بمثابة الرحمة المهداةً من الله  لكافّة عباده ، رحمة أراد بها مساعدتهم على الوصول إليه واليقين به ، والتثبّت من صدق ما يعد ، وصدق ما أرسل من البيّنات ، وصدق الغيوب التي تعجزُ بصائر الخلق عن تمثّلها وتصديقها ، فيدفعها هذا العجز إلى الضلال  والضياع حتّى إذا كان يوم الحق - يوم الحساب - وأدركت اليقين  لا ينفعها يقينها ، ولا ينفعها إدراكها ...!
تجربة النّبيّ " عُزير " :

*** كانَ النبيُّ " عُزَيْرُ " من بين منْ أنعم اللهُ عليهم بمعاينة الموت والبعث في الحياة الدنيا ن وذلك حين مرّ على قرية خاوية متهدّمة ، استهلكها الموتُ والفناءُ فتساءل في نفسه : كيف يمكن بعثُ هذه القرية الفانية المتحلّلة من همودها وفنائها ... ؟! ولمّا كان اللهُ مُطّلعا على السرّ والعَلن ، أراد أن يضرب لعُزير ، - وللخلقِ كافة - المثل على قدرته على الإماتة والإحياء من العدم ، وأن يبصرهم - أيضا بحقيقة الدنيا ، وكيف أنها بعد الموت والبعث لا تتعدى - رغم طولها وعرضها - يوما واحدا ! ... فأماّ اللهُ "عُزيرا " ، وأماتَ حماره معه ، وألحق التّلف بما كان يحمل من الطّعام والزّاد ... ثمّ بعثه وحده أوّلا ، وذلك حكمة منه - سبحانه حتّى يجعله شاهدا على بعث حماره خطوة خطوة فلا يستطيع بعد هذه المشاهدة أنْ ينكر بعثه هو ، ولا يستطيع أن يتشكك فيما حدث له  من البعث ، فلو كان اللهُ سبحانه  بدأ ببعث الحمار أولا ثم بعث " عزير " بحيث يقوم عزير من موته فيجد حماره سليما مكتملا أمامه لتشكك فيما حدث له ولظنّ أنّه استغرق في نومٍ طويل ليس إلآ ... ، ولصعبَ عليه تصديق أنّه إنّما مات وبُعث ... واللهُ هو المُطّلع على سرِّ عباده ويعلم ما في نفوسهم ، ولذلك بدأ ببعث " عزير " ثم أحيا حماره أمامه ، فشاهد بعينه كيف يكون الإحياءُ بعد الموتِ ... ، - كما شاهد في الوقت ذاته - كيف هي قدرة الله على الخلق من العدمِ ... وهنا وقعت في نفسه الحقيقة ، وهي : أنّ الحياة يومٌ أو بعض يوم ... يقولُ تعالى - في سورة البقرة - :
" أوْ كَالَّذي مَرَّ على قريةٍ وهي خاويةٌ على عُرُوشِها قالَ أنَّى يُحييَ هذهِ اللهُ بعدَ موتِها فأَمَاتَهُ اللهُ مائةَ عامٍ ثمَّ بعثَهُ قالَ كمْ لَبِثتَ قالَ لبِثتُ يوماً أو بعضَ يومٍ قالَ بلْ لبثتَ مائةَ عامٍ فانْظُرْ إلى طعامٍكَ وشرَابِك لمْ يتسنّه وانْظُرْ إلى حمارِك ولنَجْعَلَكَ آيةً للنّاسِ وانْظُر إلى العظامِ كيفَ نُنْشِزُها ثمّ نَكْسُوها لحماً فلمَّا تبيَّنَ لهُ قالَ أعلمُ أنَّ اللهَ على كلِّ شئٍ قديرٌ 259) "
تباركَ اللهُ ...! هل نرى التعقيب والترتيب في الآية ؟ : "أنى يحيي هذه اللهُ بعد موتها فأماته " هذا التوالي بين كلمة " موتها " وأماته إنما تدل على سرعة الرّد الإلهي في بيان مسالة البعث والموت والقدرة الإلهية ، فقد أجاب اله ُ بفعل عملي على تساؤل عزير ، ولم يجبه بالكلام والحوار إلا بعد اكتمال التجربة العملية التي أوقعت اليقين في قلبه ... ثم للنتأمّل في ترتيب الكيانات التي بعثها الله أمام عين عزير : عزير ذاته ثم : طعامه ... شرابه ... حماره ... ومن خلال حماره أراه الله كيفية البعث والخلق من العدم فقطع الحُجّة عليه وعلينا في هذه المسألة الغيبية الجليلة التي يعلم سبحانه أنّا نحتاج إلى التثبّت منها وفيها ... كما أكّد اللهُ من خلال عُزير أن الحياة الدنيا يومٌ أو بعض يوم رغم أن عزير مات مائة عام فضلا عن السنوات التي عاشها في قومه قبل هذه التجربة ... !  
فِتْيةُ أهلِ الكهف :
لقد فرّ هؤلاء الفتية بدينهم ويقينهم الإيماني من الملك الوثنيّ الظالم " دقيانوس "  ... فرّوا إلى كهفٍ يأويهم ... كهفٍ ضيّق مٌظلم ... لكنه أكثر رحمة بهم وأكثر أمانا لهم من المدينة المُتسّعة الرحبة التي ضاقت عليهم بما فيها من ظلم ووثنية وفساد ، ضاقت عليهم كما يضيق على المؤمنين  كل مكان لا يسع إيمانهم  ... ولا يرحِّب بيقينهم ... ولا يترك لهم مجالا حرّا للاتصال بالخالق وعبادته كما يجب  ، وكما يستحق ...
إنّ هذا الكهف في حدّ ذاته عبرة وعظة ، ودرسٌ في قياس قيمة الأماكن ... فالأماكن لا تُقاس بمساحتها ورفاهيتها وفخامتها ، بل
الأماكنُ تُقاسُ قيمتها بمدى ما تشتمل عليه من رحمة الله وأمنه ، تقاس قيمتها بما تمنحه لأصحابها من أمن وسكينة روحٍ  ، وطمأنينة  وحرية  ...   
 هذا هو الدرسُ الإلهي الذي أراد اللهُ سبحانه أن يعلّمه خلقه من خلال اختياره للكهف كي يكون مأوى وملجأ ، وحاوية آمنة لإيمان هؤلاء الفتية ... فكانت المقارنة صارخة بين هذا الكهف وبين مدينة الظلم والكفر التي هرب الفتية منها :
                فالمدينة : ضيقةٌ خانقة رغم اتساعها وعمرانها ...!
               والكهف :آمنٌ وادعٌ رغم ضيقه وظُلمته ووحشته ...



يقول تعالى مخاطبا فتية الكهف ، مؤنسا لهم ، مؤيدا مُدعّما لضعفهم الإنساني ولأعمارهم الغضّة ، ولإيمانهم القوي الفتي الذي أراد الوثنيّون الاعتداء على قدسيته وحُرمته وصدقه ... يقول تعالى  في سورة الكهف :
" وإذْ اعتَزَلْتمُوهم وما يعبُدونَ من دون اللهِ فأوُوا إلى الكهف ينشر لكم ربُّكم من رحمتِه ويُهيّئُ لكم منْ أمْركُم مِرْفَقَا   "  الآية 16  
هكذا يفسّر لنا اللهُ السبب الذي جعل الكهف آمنا مُتّسعا لهؤلاء الفتية ، رحيما حنونا بهم ، حاويا لهم ولسرهم ، وحاويا على معجزة الله المُبهرة فيهم ؛ فقد نشر اللهُ في هذا الكهف من رحمته وهيّأ لهم من أمرهم مرتفقا ومرتكزا ومعتمدا يتكئون عليه ، فليس من العجب إذن أن يتسع لهم الكهف ، وأن يكون الأمن والسكينة ... فالكهف هنا وفي هذه القصة ليس هو الكهف ذاته بصفاته التي كان عليها قبل أن يلجأ إليه الفتيةُ المؤمنون ... بل الكهف هنا هو صنيعة الله ونتاج رحمته وتدبيره الحكيم  ، وكأنّ الفتية لم يأووا إلى الكهف المادي الحجري المعروف  ، بل لجأوا إلى هذا الكهف بعد أنْ  مهّده اللهُ لهم ، وكأنهم غذن لجأوا إلى رحمة الله ، وأووا إلى قدرته وأمنه وظلال رحمته ، فآواهم واحتواهم وأثابهم على إيمانهم به بحسن ضيافته لهم وبمنحهم حق الإجارة إليه ... !  
ثمّ أبى اللهُ سبحانه إلا أنْ يكون أكثر كرما وإحسانا منهم ، فلم يكتف بإجاتهم وحمايتهم وحفظ أرواحهم وتمهيد الكهف لهم ، بل أجرى فيهم معجزته الخالدة فضرب على آذانهم مئات السنين حفظا لقلوبهم وصلابة إيمانهم ، ثم بعثهم ، وجعلهم قصة تتداولها الذاكرة الإنسانية في مدى قدرة الله على الإماتة والبعث ، كما جعلهم عبرة وعظة ومضرب المثل في شكر الله لعباده المخلصين ، ومدى حرصه عليهم وانتصاره لهم إلى حدّ تخليدهم  ، وجعلهم مضرب مصل في الخير والصالحات ... إنّه سبحانه الشكور ، العزيز الذي لا يكافئ على الإحسان بمثله ، بل بأضعافه المُضاعفة ، فيبهرُ عباده بسخائه وعزته ، وكبريائه ، وشدة امتنانه لمن يرجو وجهه مخلصا ، وسرعة عطائه لكل فعل
 إيماني جميل ... سبحانه !

يقولُ تعالى :
" وكذلك بَعثْناهُم ليتساءلُوا بينهم قالَ قائلٌ منهم كمْ لبثْتُم قالوا لبثنا يوماً أو بعضَ يومٍ قالوا ربُّكُم أعلمُ بما لبثتُم ... " الآية 19
 وحين يصف سبحانه الجل الدائر حول المدة التي استغرقها الفتيةُ في الكهف يدلُنا على أنّها مئات السنين مع اختلافات طفيفة في ظنون القائلين .. بما يعني أن الله ضرب على آذان هؤلاء  الفتية مدة من الزمن أطول ممّا لبثه " عُزير " في موته قبل بعثه وإحيائه ... يقول تعالى  - في سورة الكهف :
" ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنينَ وازدادوا تسعا 25 ) قلِ اللهُ أعلمُ بما لبثوا له غيبُ السماواتِ والأرضِ أبصرْ به وأسْمعْ ما لهُم من دونِه من وليٍّ  ولا يُشركُ في حكمِه أحدا 26 )

*** لقد أراد سبحانه من خلال تفاوت مقدار الزمن الذي استغرقه  " عزير " في الموت ، وواستغرقه الفتية في الكهف _ أراد بهذا التفاوت بين الزمنين - أن يؤكد أنّ الحياة الدنيا لا تتعدّى أن تكون يوما أو بعض يوم ... هكذا يكون إحساس الإنسان بها مهما تطاول عمره ، ومهما تقادم زمن موته إلى أن يحين بعثه ، فهو لم يعش على هذه الأرض ، داخل رحم هذه الحياة إلاّ يوما ... أو  بعض يوم ... !

الشهادات الإنسانية عند الحساب تؤكد أن الحياة يوم 

يسجّل اللهُ كثيرا من الشهادات الإنسانية  عند لقائه ، والتي تؤكد أنّ الحياة ليست إلاّ يوما واحدا ... أو بعض يوم ... وكثير من هذه الشهادات يسوقها أصحابها على سبيل الحسرة والنّدامة والقهر من خسرانهم مصيرهم ، واستهانتهم بآخرتهم لقاء حياة لا تتعدّى يوما واحدا ... فياللبيعة الخاسرة الزهيدة ، وياللمشتري الأحمق السفيه الذي لم يفطن إلى فداحة خسارته في هذه الصفقة ، وإلى قيمة ما دفع وقدّم لقاء سلعة  رخيصة  مزيفة ، بدت  له وحده  ، بدت في عينه المريضة لامعة زاهية ثمينة تستحق الثمن الّربيح ... والآن أدرك ، ولكن بعد أن فات الوقت ولم يعد في الإمكان استرداد ما دفع ، واستعادة ما خسر !
 يقولُ تعالى في سورة " طه " ، يصف الكافرين المجرمين :
" يومَ يُنفخُ في الصُّور ونحشرُ المُجرمين يومئذٍ زُرقا 102 ) يتخافتون بينهم إنْ لبثْتُم إلاّ عشرا 103 ) نحنُ أعلمُ بما يقولون إذ يقولُ أمثَلُهُم طريقةً إنْ لبِثتُم إلاّ يوما 104 ) "

شهادةٌ أخرى يسوقُها المولى في آياته - في سورة " المؤمنون "  ... يقول تعالى : " قالَ كم لَبِثْتُم في الأرض عددَ سنين 112 ) قالوا لبثنا يوماً أو بعض يومٍ فاسألِ العادِّين 113 )  قال إن لبثتُم إلا قليلا لو أنكم كنتُم تعلمُون 114 ) أفَحَسِبْتُم أنّما خلقْناكُم عبثا وأنّكُم إلينا لا تُرجعُون 115 ) "

*** الحياة مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حينٍ :

*** إن تقدير الله للحياة الدنيا بأنها يوم أو بعض يوم يتفق ويتلاءم مع وصفه لها في كتابه العزيز بأنها مُستقرٌ ومتاعٌ إلى حينٍ ، فمساحة اليوم - أو بعض اليوم -  على صعيد حياتنا الدنيا ، وفي أسفارنا وأعمالنا ووجودنا في مكان ما خارج المنزل لا تكفي للاستقرار والراحة ، وإعداد العُدة للإقامة والسكنى والمبيت ، ولا تستحق أن نشتري متاعا جديدا   ، أو غير ذلك من الممارسات التي نقوم بها في المنزل الأصلي الذي نعيش فيه ...  مساحة اليوم أو بعضه لا تكفي لأي شئ من هذا ... وقد صدق الرسولُ الكريمُ - في وصف حاله في الدنيا وحالنا فيها ، حين شبّه ذاته الكريمة - وشبّه عموم الإنسان - بعابر سبيلٍ مرّ بشجرة وارفة فاستظلّ بها ، واستراح قليلا ثم تركها وذهب لحال سبيله ...
الحياةُ الدنيا هي هذه الشجرة الوارفة ، والإنسانُ هو هذا المسافر العابر الغريب الذي يمر عليها ... مجرد المرور فيجلس إليها يستريح أو يقيّل ، أو يستظل بخضرتها ويلتقط أنفاسه ، ثم يتركها ويمضي ، فلا هو بالمقيم عندها ، ولا هو حاملها معه على ظهره ، ولا هو آخذ منها شئٌ عند ارتحاله منها ... قمّة الدّقة والبلاغة والحكمة ، وقمة التوافق والانسجام مع التقدير الإلهي لعمر الإنسان في الحياة بأنها يوم أو بعض يوم ، إذ لا يكون هذا العمر العابر ، وهذا الزمن الضيق إلا للمسافر العابر الغريب ... وهكذا انسجم الطرح القرآني مع الحديث النبوي ، وانسجم التقدير الإلهي لعمر الحياة الدنيا مع وصف الله لها بالعابرية ، في قولهإنها : " مستقرٌ ومتاع إلى حين "... 
***ويبقى للإنسان بعد الموت ... وبعد أن ينتهي عمرُه -الذي لا يتعدّى يوما أو بعض يوم ... يبقى له أن يواجه يومه الثاني : يوم الحق ... يوم الحساب ... يوم الدّين ... يوم القيامة ... لكنّ هذا اليوم ليس كأي يومٍ من أيّام الدنيا بل هو - على النقيض من أيام الدنيا - يوصف بأنّه يوم بينما يبلغ خمسين ألف سنة ممّا يحسبُ الإنسانُ في حياته في الأرض ... هذا اليومُ يُشارُ إليه بكلمة اليوم وهو المصير كاملاً ... هو المآل وهو الحق والخلود في أحد الدّارين ... هو الحقيقة ... 
هل لاحظنا هذه الضدّية في الكم والكيف بين عمر الإنسان في الدنيا وبين يوم القيامة ... إن حياة الإنسان في الدنيا تُحسب بالسنين بينما هي في تقدير الله ثم في تقدير صاحبها لا تتعدى يوما أو بعض يوم ... وإن يوم الحق يطلق عليه اليوم بينما يبلغ  آلاف السنوات من حساب الإنسان - من الناحية العددية - ولا يقارن بحياة الإنسان العابرة لأنّه المصير ... 
ومن ثمّ أيّ يوم يجبُ أنْ يكونَ قرباناً لليوم الثاني ؟! 

                       بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 





تعليقات