إصبعُ قدمي حرّضني على قيام الليل ... !

*رغم المسكِّن الطبِّي  لم أنم ليلة كاملة من ألم شديد في إصبع قدمي اليمنى ، فلقد دهسه أحدُ المارّة في الشارع وهو يعود بظهره إلى الوراء فجأة ...! أرقتُ هذه الليلة من نبض الإصبع ونباحه المتقطّع الذي كان يوقظني كلما غفوت ؛ حتّى تمنّيت من شدة تغيّظي أن أقطع هذا الإصبع لأخلص من ألمه ... ولمّا تطاول الأمر وأصبح لا يُحتمل ... قمتُ أبحثُ عن مُسكّن طبّي أقوي ... وبينما أفتشُ إذا بخاطر يبرقُ في ذهني قائلا :
لماذا لا يكونُ ألم إصبعي هذا تدبيرا إلهيّا حكيما لأقوم وأصلّي ركعتين قانتتين في جوف الليل ،لماذا لا يكون تدبيرا إلهيّا جعل الألم يفوقُ تأثيرَ المسكِّن حتّى لا أُضيِّع صلاةَ الليل ، وبذلك يكون ألمُ إصبعي باطنه رحمة وظاهُرُه عذاب ؟!
**انشرح صدري في الحال ، وانقلب غضبي إلى سكينة ورضا عميقين ، وأوشكتُ أنْ أقبّل هذا الإصبع الذي تمنّيتُ قطعه منذ قليل ... ! وأسرعتُ إلى الصلاة والاستغفار والدّعاء شاكرة لله فضله أنْ منّ علي بهذا الخاطر الخيّر الطيّب المُحرّض على عبادته ... ثمّ أخذني التفكير العميق بما بدّد أي احتمال في إمكانية النوم ثانية - هذه الليلة - قلتُ في نفسي :
إنّ كثيرا ممّا نسميه المصائب والكوارث والمحن تكون أسبابا  تدفعنا إلى اللجوء إلى الله دعاء واستغاثة ، وتحضّنا على عبادته و القربى إليه عسى أن تنكشف عنّا هذه المصائب ، وعسى أن يفرّج بهذه العبادة والدعاء همومنا وكروبنا ... !
إنّ هذه العلاقة  بين ابتلاء الإنسان بالمصائب ، وبين لجوئه إلى الله لدليلٌ على معرفة الله بطبيعة خلقه ، ودليلٌ على أنّه - سبحانه - حكيم خبيرٌ رحيمٌ ...
***إنّ اللهَ يعلم - وهو خالقنا - طبيعة جبلّتنا القاسية - الجاحدة   ...  طبيعتنا النّاكرة لفضل الله وأنعمه ، فكثيرٌ منّا يتناسى بالنّعم خالق النّعم ، الإنسان إذا وقع له الخير أعرض عمّن رزقه هذا الخير ، واستغرق فيما هو فيه من التّرف أو المجد أو الجّاه ، أوالبنين ... إلى آخره ، وتناسى  ربّ هذه النعم الذي أنعم بها عليه ، ونأى بجانبه ، وأهمل صلته بالله حتى يقسو قلبه فلا يهتز ، ولا يتحرك - مجرد حركة - لسماع اسم الله ، أو سماع شئ يتصل بقدرة الله وبطشه أو رحمته ... إلى درجة تبدو فيها هذه النعم هي الإله الذي ارتضاه الإنسان وأشرك بالله من خلاله بينما هذه النعم من عطاء الله وليست من عند ذاته ... !
هذا الإنسانُ ... هذا الإنسانُ ذاته إذا ما أصابه الابتلاء في نعمه هذه - أو في واحدة منها - إذا أصابته مصيبةٌ عظيمة توقظه من هذا السّكر وهذه الغفوة وهذا الضلال ... إذا ما أصابه العوز أو الفقر والفشل والانكسار ، ورأى نفسه عاريا ممّا كان به مزهوا على الخلق من قبل ، عاريا متجردا مما كان به جاحدا لخالقه مُعرضا عن مجرد إسمه وعبادته ... إذا ما أصيب الإنسان بشئ من هذا الابتلاء العظيم اندفع إلى خالقه لاجئاً مستغيثا مُستنجدا بالله ، آوياً إلى عظمة الله بعد أن فقد شعوره بعظمة ذاته ، لاجئا إلى قوة الله وغناه بعد أن ذهبت عنه القوة والغنى ... ، مُستغيثا بالله العزيز الجليل بعد أنْ فقد هو هيبته وماكان فيه من إعزاز ومكانة وجاه ...
في هذه الحال يسرعُ الإنسان إلى ربّه مهرولا ، وتبدو نفسه وكأنها تقول لخالقها :
 انكشفَ لي ضعفي ، واتّضح لي انكساري ، وواجهتني هشاشتي دون قناعٍ ... وها أنذا أطرقُ بابكَ لاجئة مُستغيثة ... معترفة بوهني وذلّي وانشطاري ، مدركة - كل الإدراك - أنّك تعلم ولا أعلم ، وأنّك تقدر ولا أقدر ... ، وها أنذا أرجو منك كلّ ما أعلم علم اليقين أنّي لا أملكه ؛ فأنا بحاجة إلى قوّتك لأرمّم ضعفي ، وإلى جبرك ليلتئم كسري ، وإلى جاهك لأقيم رأسي وأرفع هامتي من ذلّتي ، أنا بحاجةٍ إلى نورك لأبدّد ظُلْمَتي ، وإلى قدرتك على أنْ تقول للشئ "كُنْ فيكون " لتنقلني من الهمّ إلى الفرج ، ومن الضّيق إلى السّعة ، ومن الرّوع والفزع إلى الأمن والسكينة ، ومن السّخط والتبرّم إلى الرضا بقضائك وقدرك ، ومن الحمق والغفلة إلى إلى إدراك وجودك ، والالتفاف حول نورك باعتباري ذرّة من ذرّات كونك العظيم ... ، ... ، ...،   يا ااالله

*** هكذا تجودُ النفسُ الإنسانيةُ بابتهالاتها - ساعةَ تأزّمها -  وهي صادقة ، فترجو وتستعطف خالقها ، وتطرق بابه راجية ذليلة مُتبتّلة ... ولوثبت الإنسانُ على هذا الحال من القنوت والعبادة والرجاء - في الشدة والرخاء - لبلغ عند ربّه مبلغ الصّيقين والشهداء ... لكنه لا ااا يدوم !

* إنّ انعطاف النفس الإنسانية تجاه الخالق ساعة الشدة والتأزم حالة تلزم كثيراً من الخلق ، وقاعدة ينتظم عليها الإنسانُ طوال تاريخه ، وعلى مدار مدار حياته ... ، لا يُستثنى  من  هذه القاعدة إلا الآنبياء والأصفياء والصالحين الذين أنار اللهُ بصائرهم ، وأهداهم الحقيقة ، وآتاهم اليقين ... هؤلاء يدركون جوهر الحياة الدّنيا ... يدركون الغاية الكبرى من وجودنا فيها ، وأننا لم نُخلق لهذه الدنيا ، وإنمّا خلقنا فيها لنستعد ونتأهب لغيرها ... لحياة أخرى هي الخالدة وهي الدائمة ، وهي المصير ، وهي الحقيقة ... أمّا هذه الدنيا فهي العابرة ، وهي الزّائلة ، وهي الزّائفة ، وهي المعبر والجسر وليست المُستقر ... فكيف نستغرق فيها وننسى المآل ، وكيف نرفع شأن الزيف على الحقيقة ، وكيف ننتصرُ للمحال  ولا نرجو اليقين الدّائم ... هذا هو الرزق الحقيقي الذي رزق به اللهُ أنبياءه وأصفياءه وثبّتهم به ليقوموا بالدّعوة إليه ، ويقوموا بعبء رسالاتهم ، وليقدروا على مواجهة كل ما تلقاهم به الحياةُ من الفتن والشرور والتنغيصات ، وكل ما يواجههم به أقوامهم من التّكذيب والنكران والعذاب المادي والمعنوي ، ... ومنْ هنا ثباتُ الأنبياء وثبات الصالحين : من إدراكهم الحقيقة ، ومن امتلاكهم الحكمة العليا ...
ولذلك فإن هؤلاء الصفوة يتواصلون مع خالقهم ، ويقبلون عليه في السّراء والضرّاء ، في قوتهم وضعفهم ، فالنّعم والفتن لا تديرُ رؤوسهم ، ولا تُفقدهم توازنهم ، ولا تسلبهم ما منحهم اللهُ من الحكمة واليقين ، بل إنّ الله يصفهم في كتابه بأنّهم يهرعون إليه في قمّة إنعامه عليهم ، وكأنّهم يبادرون إلى إثبات عدم تغيّرهم وتبدّل أحوالهم عند الرّخاء ، وكأنّهم يسرعون إلى تأكيد ازدياد يقينهم بالله عند إنعامه عليهم ، وأنهم مدركون أنّ النعم لها حقوق تُؤدّى أقلّها شكر الله عليها ، ولذلك يسارعون بالشكر وتأكيد معرفتهم أنّ ما هم فيه إنما هو من الله وحده وأن ليس لهم فضل فيما آتاهم ، وأن الشيطان لن يراودهم عن إيمانهم من خلال ما أنعم اللهُ عليهم ...
    ***  هكذا   كان   حال  النبي" سليمان - عليه السّلامُ - حين أنعم اللهُ عليه بما لم يهبه لغيره من العالمين ، فقد سخّر له الرّيح والجّن تسعى بأمره ، وعلّمه منطق الطّير ، فلم تَدُرْ رأسه ، ولم يُفتنْ ، ولم يدّع ما ادّعاه " قارون " -أو صاحب الجنتين في سورة الكهف - حين أسكرته أنعم الله وأصابه الهذيانُ وقال إنّما أُوتيتُ كل ذلك على علمٍ منّي وأخذه الكبرُ وغرور المتاع فأسقطه حمقه ، وأهلكه عماه ...
يقولُ تعالى في وصف إنعامه على " سليمان "- سورة الأنبياء :
" ولِسُليمانَ الريحَ عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنَا فيها وكنَّا بكلِّ شئٍ عالمين 81 ) ومن الشياطين منْ يغوصون له ويعملون عملاً دونَ ذلك وكُنَّا لهم حافظين 82 )
وقال تعالى - واصفا إدراك سليمان قيمة نعمه ، والغاية منها :
" وورثَ سليمان داوود وقال يا أيها   الناس   علِّمْنا منطقَ الطَّيرِ وأُوتينا   من كلِّ  شئٍ    إنَّ  هذا  لهو  الفضلُ   المبينُ   وحُشرَ لسليمانَ   جنودُهُ من الجِّنّ والإنسِ والطّير فهمْ يُوزَعون 17 ) حتّى إذا أتوا على واد النملِ قالت نملةٌ يا أيّها النملُ ادْخُلوا مساكِنَكُم لا يحْطِمَنَّكُم سليمانُ وجنودُهُ وهم لا يشعرون 18 ) فتبسَّمَ ضاحكاً من قولِها وقالَ ربِّ أوْزِعنِي أنْ أشكًرَ نعْمَتَك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والِديّ وأنْ أعملَ صالحاً ترضاهُ  وأدْخلني برحمتك في عبادك الصّالحين 19 )    سورة النّمل      

هل لاحظنا كيف كان ردّ فعل سليمان - عليه السلام - تجاه إنعام ربّه عليه  ، إنّ سليمان :
    - أظهر نعمة ربّه عليه ، وأبرزها للناس فجمعه ودلّهم على ما آتاه من الفضل ...
- امتنّ لله ، وووصف ما وهبه الله من النعم بأنه الفضل المبين ...
- أدرك أنّ الغاية من الإنعام ابتلاء العبد واختبار إيمانه ، وتقديره لخالقه ، فشكر الله ودعاه بأن يمده بالقدرة على هذا الشكر ، وأن وأن يرزقه القدرة على العمل الصالح ...
- ازداد خشية من الله وخوفا منه ، فلم تمنحه النعم الثقة في رضا الله عليه ، أو الثقة في حسن الخاتمة ، بل طلب من الله أن يدخله - برحمته - في عباده الصالحين ، أي أنّه لم يغتر بعمله الصالح ، ولم يظن لوهلة أن أعماله تحدّد مصيره ، بل أدرك أنّ الصالح من عمله وعبادته لا يُقاس بإنعام الله عليه ، لذلك أدرك أنّه لن يؤدي شكر الله حق أدائه ولن يكون من الصالحين إلا برحمة الله وحده ... !

*** وهكذا كان " ذو القرنين " الذي ألان اللهُ له زُبَر الحديد والنحاس ، وآتاه من كل شئٍ سببا     ، ومكّنه في الأرض ، فلم يغتر ، ولم يبطش  ، بل اتبع الأسباب الإلهية ، وسخّر    قوته لله ، وللدعوة إليه ، و كان شاكرا حامدا ، مدركا الغاية من الابتلاء بالنعم فاندفع إلى الخير ،وساعد في بناء السّد في مواجهة " يأجوج " و" مأجوج "  ورفض أجر عمله معترفا بفضل الله عليه ورزقه وإغنائه عن عطاء الاخرين ... !

*** إنّ تخليد المولى - سبحانه ذكر هذه النماذج النّاصعة من الأنبياء والصالحين في كتابه الكريم  دليلٌ على أنّهم استثناءٌ ، وأنّ القليل من عباد الله هو الشكور - كما أشار سبحانه في القرآن فس سياقات كثيرة - أمّا القاعدة ، أمّا السائد العام في البشر فهو الجحود والنكران ، والافتتان بالنعم ، والإعراض عن الله بما منح اللهٌ من الرّزق والخير وزينة الحياة ، ومتاع الغرور ، حتّى إذا انحسر الشّباب ... وذهبت الفتوّة ، وتراجعت القدرة ، وتسرّبت النعم من كفّ اليد كالمياه من الغربال ... وتخلّى الأهل والبنون والصحبُ كما تخلى الشبابُ والمال ... وتكشّفت الحياة عن حقيقتها المُرة فإذا هي عجوزُ شمطاءُ شرهةٌ جشعة  ، هلوكٌ مستغلة ... وليست كما بدت في مطلع العمر حسناء فاتنة معطاء مقبلة ، ودود ألوف مؤنسة ... فإذا حدث هذا وبدا السراب جليا أنه سراب وليس بحيرة ماء عذبة ... توجّه القلبُ إلى الله ، وخشعت الروح  لأن الغرائز خشعت وصمتت وانخمدت ... وتأكّد صدق المولى وهو يصف غدر الإنسان وخسّته وحمقه ، وجحوده وألأنّه لا يعرف الله إلا في العوز والحاجة ، وأنه ينكره عند القوة ويستغني عنه عند الغنى ، ويتكبر عليه حين يمتلك الجاه ... صدق قوله تعالى - سورة يونس " :
" وإذا أذقنا النّاسَ رحمةً منّا بعدَ ضرّاء مسّتهم إذا لهم مكرٌ في ىياتنا قلِ اللهُ أسرعُ مكْرا إنّ رُسُلَنا يكتبونَ ما تمْكُرُون 21 ) هو الذي يُسيّرُكم في البرِّ والبحرِ حتّى إذا كنتُم في الفُلكِ وجرينَ بهم بريحٍ طيّبةٍ وفرِحوا بها جاءَتْها ريحٌ عاصفٌ وجاءَهُم الموجُ من كلِّ مكانٍ وظنُّوا أنّهم أُحِيطَ بهم دعوا اللهَ مخلصينَ له الدِّينَ لئِنْ أنْجيْتَنا من هذهِ لَنَكُونّنَ من الشاكرين 22 ) فلمّا أنْجاهُم إذا هُم يبغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيّها الناسُ إنّما بغيُكُم على أنفِسِكُم متاعُ الحياةِ الدُّنيا ثمّ إلينا ِ مرجعُكم  فنُنَبُّكم بما كنتم تعملون 23 )
 ويقول تعالى  - سورة " يونس " :
" وإذا مسَّ الإنسانَ الضُّرُ دعانا لجنبِه أو قاعدا أو قائما  فلمّا كشَفْنا عنه ضُرُّهُ مرَّ كأنْ لم يَدعُنا إلى ضُرٍّ مسَّه كذلك زُيِّنَ للمُسرِفين ماكانوا يعملون " الآية 12

****  وبعد هل كان لا بدّ لإصبع قدمي أنْ يُدهس لأتدبَّرَ حكمة اللهِ وأنتبهَ إلى أنّ ما نراهُ ابتلاءً إنَّما هو الرحمةُ بعينها  ؟! وماذا لو لم يكن ألمُ إصبعي كافياً لإيقاظي ... وتنبيهي وتحريضي إلى التدبّر  ؟! ماهو الألم البديل في علم الغيب والمدّخر لنفض ما يعتادنا من  السهو والغفلة  ... ؟! كيف حالي بعدَ أنْ يُشفى إصبعي ؟!!

     بقلم : د . كاميليا عبد الفتاح 

تعليقات