قوة اليقين و البلاء المُبين Power Of Certainty

*** يختبرُ اللهُ إيمان عباده المقرّبين اختباراتٍ عظيمة ، ويتطلّبُ منهم تقديم البراهين القوية الدّالة على إيمانهم به ، وابتغائهم وجهه ، وإخلاصهم له ... يختبرُ هذا الصدق الإيمانيّ بوضعهم في مواجهة : البلاء المُبين ...
ولقد طرح القرآنُ الكريمُ أمثلةً دالّةً في هذا المجال تصفُ هذا المُتطلّب الإلهي الذي يمحّص به الله المخلصين من عباده ...

** حين اصطفى اللهُ تعالى عبده " موسى " - عليه السلام - ليهدي به بني إسرائيل ، ويكيد به لفرعون - الذي طغا في الأرض ، وعلا فيها بالفساد  - دبّر اللهُ لهذا الأمر منذ مولد موسى ، وقد وُلِد في العام الذي يقتل فيه فرعون كل ذكر مولود لبني إسرائيل ؛ فخافت أمُّ موسى أن ينال وليدها  هذا المصير ، وأن تناله يدُ فرعون ؛ فأوحى اللهُ إليها أنْ ترضعه ثمَّ تلقيه في اليم... قال تعالى :
" وأوحينا إلى أمِّ موسى أنْ أرضِعيه فإذا خفتِ عليه فألقِيه في اليمِّ ولا تخافي ولا تحزني إنَّا رادُوهُ إليكِ وجاعلُوهُ من المُرسَلِين" سورة القصص / الآية 8
ويقولُ تعالى - مخاطباً موسى -  :
" إذْ أوحينا إلى أُمِّك ما يُوحى 38 ) أنْ اقْذِفيِهِ في التَّابوتِ فاقذِفيِه في اليمِّ فلْيُلْقِهِ اليمُّ بالسَّاحلِ يأخُذْهُ عدوٌّ لي وعدوٌّ له وألقيتُ عليك محبَّةً منِّي وَلْتُصْنَعْ على عيني 39 ) سورة طه

** النّجاة والخلاص من الهلاك - في هذا الموقف - مشروطان بمواجهة الهلاك ...!  ؛ إذ لابد لهذا الرّضيع كي ينجو من الموت ومن بطش فرعون - لابد له من أنْ يواجه الموت ويقع في يد فرعون ...!
إنّ هذا المنطق  منطقٌ إلهيٌ محضٌ ... منطقٌ إلهي ... إنّه قانونٌ إلهي مئة في المئة يطرح  الهاوية نجاةً  ، ويعرض اليمّ باعتباره طريقا للخلاص ، لا  للغرق والفناء ...
لقد أوحى اللهُ - سبحانه إلى أمّ موسى - إذا أرادت الحفاظ على ابنها - والنّجاة به من يد عدوّه - أنْ :
- تلقي به - رضيعا - في اليمّ ...
- أنْ تلقي به - رضيعا - في يد العدوّ ...!
ولْنَنْتَبه إلى : أنّ اللهَ - تعالى - يخاطب الأم ( أمّ موسى ) ، لا يخاطب أباه ولا أخته ، ولا جدّته ، ولا أحدا من ذويه الآخرين ، بل الأم ، ويطلب من هذه الأم أنْ تطمئن لهذا الـ منطق الإلهي الخاصّ جدا ، وأنْ تسلّم قيادها له  دون أي شكٍ في صحّة هذا المنطق وسلامة نتائجه ، ودون أي تردد في تكذيب منطق عقلها البشري وتنحيته جانبا ...!
** إنَّ هذا المنطق الإلهي لا يتفهّمه العقل البشري ،لا يستطيع العقل البشري أنْ يتفهّم تفاصيل هذه المعادلة المبنية على : 
                       الـــ  مفارقة الصّارخة
المفارقة التي تتعامل مع الهلاك بوصفه نجاة ، ومع الموت بوصفه  حياة ... !                                                                          إنَّ هذا المنطق لا يستسيغه العقل البشري في حالته الطبيعية ... - لأنّه خارج الوضع الطبيعي - ، ومن ثم لا يتقبّله العقل البشري إلاّ وهو - ذاته - في حالة غير طبيعيّة  ... ، وهي :
أنْ يبلغ هذا العقل البشري درجة عالية من اليقين الإيماني تمكّنه من تقبّل هذا المنطق واستساغته ، بل والرضوخ له عن قناعة ورضا وتصديق ، لا عن عجز وقلّة حيلة ...
ولذلك - وفيما يخصُّ أمّ موسى - أسلمت القياد لله تعالى ، وتغلّبت ثقتها فيه على طبيعة الأم - التي ماكانت تفعل مافعلته أم موسى - حتى ولو كانت مصابة بالجنون - حقّقت إرادة الله ومشيئته في إرسال رضيعها إلى هذه الرحلة العجيبة  التي لم يقم بها رضيعٌ غيره ، وما كانت تعلم أنّها لا تُنجي إبنها فقط  بل وتحقق  مشيئة الله التي أرادت الكيد  لهذا الــفرعون بهذا الــ ... رضيع فأرسلت بالرّضيع  في صندوقه الصغير  يبارزه ! 
رضخت أم موسى لهذا المنطق الإلهي ونفّذت المشيئة ... ثم أفاقت بعدها ... وعاودها منطقها البشري ، وعذّبتها طبيعة الأم بعد أن ذاع في المدينة أمر عثور فرعون على ابنها وعزوف ابنها عن المرضعات  و احتاجت إلى  التّدخل الإلهي  الخاص مرّة أخرى  ،  فربط اللهُ على قلبها لئلا يغلبها الفزع والخوف ، ولئلاّ تتلاعبُ بها الهواجس والوساوس والهذيان فتفضي بسرّها ... -بما يؤكد أنّ ثبات قلبها من قبل كان معجزةً إلهيّة -  ... يقولُ تعالى :
" وأصبح فؤادُ أمِّ موسى فارغاً إنْ كادتْ لَتُبْدِي به لولا أنْ ربطْنَا على قلبها لتكونَ من المؤمنين " سورة القصص / الآية 10  

* مرّة أخرى يُرسل اللهُ نبيّه موسى إلى الهول ، ويطلب منه مواجهة البلاء المبين ، وذلك بعد انْ اشتدّ عوده في بيت عدوّه " فرعون " ، وبعد أنْ أعدّه اللهُ للنبوّة فناداه في جانب الطور ، وأراه الآيات الكبرى التي تؤكّد له أنّه إنما يُعدُّ لرسالة عظيمة وأنّه من المرسلين ، فأراه معجزة العصا ، وأراه يده بيضاء - من غير سوء - أطلعه على معجزات نبوّته ، ومدى تدعيم السماء له بما يتهيّأُ به لمواجهة فرعون ... نعم ... أمر اللهُ نبيّه موسى أنْ يذهب إلى فرعون ويدعوه للإيمان به ويجاهره بأنه - وهو الذي رُبّي في قصره - نبيٌ مرسل لهدايته وانتزاع جبروته وطغيانه ...! يقول تعالى :
" إذْهبْ إلى فرعونَ إنَّه طغى " سورة طه / الآية 24

*** إنه المنطق الإلهي ذاته ، والمُتطلّب الإلهي ذاته :
مواجهة الهول ... مواجهة البلاء المبين ، منازلة الموت ... وكأنّ موسى يواجه اليمّ رضيعا مرّة أخرى ... وحيدا مرة أخرى 
إن الله يأمر موسى أن يذهب إلى فرعون ، ويصف فرعون - في السياق ذاته - بأنّه طغى ...ّ أي أنه يكلّفه بمواجهة الطغيان ... ! 
ولكي ندرك مدى استعظام موسى لهذه المواجهة ، ومدى إدراكه للهول الذي سيواجهه علينا أنْ نتأمّل جواب موسى لربّه ، ونتأمّل   دعاءه العريض ورجاءه له كي يثبّته في هذه المواجهة ... قال تعالى يصف جواب موسى : 
" قالَ ربِّ اشرح لي صدري 25 ) ويسِّرْ لي أمري 26 ) واحْلُلْ عقدةً منْ لساني 27 ) يفقهوا قولي 28 ) واجْعَلْ لي وزيراً من أهلِي 29 ) هارونَ أخي 30 ) اشْدُدْ به أزْرِي 31 ) وأَشْرِكْهُ في أمري 32 ) كي نُسبِّحَكَ كثيراً 33 ) ونذْكُرُكَ كثيراً 34 ) إنّك كنتَ بنا بصيرا 35 )  سورة طه  
لقد توسّل موسى إلى  ربّه أنْ يضع عليه دروعا يواجه بها فرعون 
هذه الدروع هي :
                    - انشراح الصدر وتهيُّؤه
                     - تيسير الأمر ...
                     - تذليل البيان والفصاحة ...
                     - تدعيم الأهل ومساندتهم ...

*** وتتم المواجهة بين موسى وفرعون ، ويختبر فرعون نبوة موسى ، ويرفض الإذعان لها أو تصديقها ، كما يرفض - ولو على سبيل الافتراض - أن يتنازل عن الأسطورة التي أحاط بها كيانه وعاش فيها عمرا ... ، فكيف إذن يُذعن لموسى الذي جاء يسلبه أسطورته / كيانه ... ؟ !
وبلغ الصراعُ ذروته حينَ أصرّ فرعون على جبروته وتمادى في طغيانه ، ومضى موسى في رسالته مدعوما بربّه ، مواصلا طريق الهداية من جهة والكيد لفرعون من جهة أخرى ...

** وقذف اللهُ بموسى إلى مواجهة الأهوال الواحد تلو الآخر بعد أن أرسله إلى فرعون ، فأمر الله موسى أنْ يواجه سحرة فرعون الجبّارين بـــ  عصاه ... :
              العصا  في مواجهة السّحرة ... !
وهيَّأَ اللهُ  موسى  لهذه المواجهة وأطلعه على المعجزة التي شاء أنْ تكون في هذه العصا المتواضعة : عصا الرّعي وهشّ الغنم ... ، ولمّا صدق موسى وثبّته اليقين اجتاز بعصاه هول السّحرة ...
ثمّ جاءه الهول الآخر : مطاردة فرعون وجنوده ... الذين يَعُدون وراءه هو وأشياعه المؤمنين يطلبون دماءهم ... ؛فأوحى إليه اللهُ أن يعدو جهة اليمّ ،  وأن يستدج فرعون وجنوده إلى هذا اليمّ ...
مرّة أخرى يلعبُ اليمُّ دور البطولة في قصّة موسى ... مرّة أخرى يجتاز موسى اليمّ فيكون اليمُّ نهاية  قصّته مع فرعون كما كان بداية هذه القصة - حين احتواه رضيعا - ... قال تعالى :
" ولقد أوحينا إلى موسى أنْ أَسْرِ بعبادي فاضْرِبْ لهم طريقاً في البحرِ يبَسَا لا تخافُ دَرَكاً ولا تَخْشَى 77 ) فأَتْبعَهُم فرعونُ بجنوده فغَشِيهُم من اليمِّ ما غشِيهم 78 ) وأضلَّ فرعونُ قومَهُ وما هَدى 79 ) " سورة طه

***لقد كان اليمُّ- من البدء - نقطة الانطلاق والنّجاة التي ارتضاها اللهُ لموسى ، فأوحى لأمّه أن تقذفه في هذا البحر رضيعا ، وجعل البحر منجى له وأمسكه عن إيذاء هذا الرضيع ،  ثم وجّه حاشية فرعون أن يلتقطوا هذا الرّضيع من البحر ، وعطف قلب زوجة فرعون على هذا الرضيع وشرح صدرها له حتّى استطاعت أنْ تقنع فرعون أن يبقي على حياته وأنْ يربّيه في بيته - بدلا من قتله ! - وأن يتخذه ربيبا وولدا ؟!
ثم جعل اللهُ البحر مُستدرج فرعون إلى الهلاك والفناء فأوحى إلى موسى أن يمضي بأشياعه إلى البحر،  وأن يشقّ هذا البحر العظيم بعصاه ...!  فينفلق البحر طريقا يبسا ويجتاز موسى وأشياعه فيتبعهم فرعون - استدراجا من الله - فينطبق البحر عليه هو وجنوده ... !
### لقد كان يقينُ موسى بربّه وإيمانه به هو السّلاح الذي واجه به هذا الهول العظيم ، وهذا البلاء المبين :
                    - البحر وظلامه ووحشته وجبروته ...
                     - فرعون ورجاله وطغيانه وجبروته ...
لم يواجه موسى كلّ هذا بعصاه ، بل بيقينه ، بإيمانه ، ولم تكن العصا سوى الوسيلة الماديّة التي أظهر اللهُ فيها إعجازه وقدرته ، وأبدى فيها لعباده عجائب إرادته ، ولو شاء الله لتمّ الأمر دون عصا ، لكنه سبحانه يعلم حاجة خلقه إلى معجزة ماديّة ملموسة ، إلى ... إلى جسد ماديّ  تتبيّن  فيه الخوارق ، فعطف على خلقه ورحم طبيعتهم ، لكنّه سبحانه أظهر قدرته في أوهن شئٍ - وهو العصا - حتى يؤكد لهم أنّ الشئ ذاته لا يحمل معجزة ، وأنّ العصا في حد ذاتها لا تحمل هذه المعجزات لكنها إرادته التي تجعل عصا الّرعي  تأكل ثعابين السّحرة ، وتفلق البحر العظيم إلى نصفين ... إنها العصا المأمورة من ربّها المُسخّرة بقدرته ، وإلاّ كيف حال العصي التي نملكها الآن ، وكيف هي قدراتها ؟!
كان لابد لموسى أن يمتلك كل هذا اليقين ليواجه به هذا البلاء المبين ... !

* * هذا المنطق الإلهي واجه به -  سبحانه -  قوّة إيمان  إبراهيم - عليه السّلام - حين أوحى إليه ربُّه أن يرتحل وأهلُه إلى مكة ويتهيّأ لما سيُكلّف به ... وهنا يتّصدّى إبراهيم بإيمانه لانعدام أسباب الحياة في الأرض التي أودع فيها زوجه وابنه ... نعم : زوجه وابنه ... يقولُ تعالى :
" رَبَّنا إنِّي أسْكنتُ منْ ذُرِّيتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عندَ بيتِكَ المُحرَّمِ ربّنا لِيقيمُوا الصَّلاةَ فاجعلْ أفْئِدةً من النَّاسِ تهوي إليهِم وارْزُقْهُم من الثَّمرات لعلَّهم يشكرُون " سورة إبراهيم / الآية 37

لقد امتثل إبراهيمُ لربِّه فأسكن أهله في وادٍ يفتقدُ أسبابَ الحياة  
    : - الشراب والطّعام ... 
       - العمران والائتناس ...  
وقد واجه هذه الأهوال بأمرٍ واحد ، هو : الإيمان بربّه والثقة به  ؛ ومن ثمّ نلاحظ - في الآية السّابقة أنّ إبراهيم يبدأُ خطابه لربّه بقوله : ربَّنا ... ؛ فهو موقن بالربوبيّة ، متوكّل عليها ، ويعلم أنّ من صفات الربوبية المسؤولية التامة عن الخلق وعن أرزاقهم وتأمين حياتهم ... ومن هنا خاطب الربوبيّة في ربّه واستغاث بها ... كذلك فقد واجه إبراهيم هذا المكان المفتقد للحياة - واجهه - بالاحتماء بجوار الله ، وهذا ماذكره لربّه في مناجاته حين قال : 
" إنِّي أسكنتُ منْ ذريّتي بوادٍ غيرِ ذي زرعٍ عندَ بيتِكَ المُحرّمِ"  
وكأنّه - حين يذكرُ البيت المحرّم - يستدعي جوار الله ، ويستغيث بهذا الجوار ، ويستحضر حُرْمَتَه ليحتمي بهذه الحُرْمَة ، ويستأنس بالقوّة الكامنة فيها ، هذه القوة هي  : الحُرْمَة ... إنّه البيتُ  الذي لا يناله السّوء ؛ فهو محفوظ بحفظ الله له ... ؛ ومن ثمّ سيكون كلّ من يجاوره آمنا مُعافى  في حفظ الله ... هذه هي موجبات الاطمئنان التي وقعت في قلب إبراهيم ، والتي ارتكن إليها وتوكّل فيها على ربّه وهو يودع زوجه وابنه أمانة في يد خالقه ...
** ولقد كان يقينُ إبراهيم بقدرة الله على حفظ هذه الأمانة التي استودعه إيّاها يقينا ثابتا راسخا ، إلى حدّ أنّه - في ختام مناجاته لربه - حمده وشكره أن رزقه على الكبرِ بإبراهيم ، كما دعا لنفسه وذريّته من بعده بالهدى والثبات على الصلاة والطّاعة ، بما يعني أنّه كان على ثقة من أن الله سيحفظ هذه الزوجة وهذا الابن - إسماعيل - وسوف تمتدُ حياة هذا الابن حتى تتوالد منه ذريّة تحتاج إلى أنْ يرفع لها الدّعاء بالهداية والصّلاح ... لقد كان إبراهيم على يقين من وعد رّبه وقدرته ... كان يقينه بمثابة المنظار الذي تطلّع به إلى المستقبل واستشرف به الغد المأمول 

*** أمّا السيدة هاجر ... زوج إبراهيم - عليه السلام - فقد امتثلت لأمر الله ، وأطاعت زوجها النّبي ، ولم تتخل عن زوجها في رسالته ، ولم تسخر ممّا أمرها به : أن تبقى مع رضيعها في أرض موحشة غير مأهولة ، بل أطاعت واستجابت بيقينٍ استطاع أنْ يقاوم فيها الفزع الفطري للمرأة وعجزها عن احتمال مثل هذه الابتلاءات الكبرى ... ، استطاع يقينها أن يقاوم فيها غريزة الأمومة التي ماكانت - في الوضع الطبيعي - لتسمح للزوج بأن يتسبب في هلاك ابنها ، فكيف إذا كان هذا الابن رضيعاً ... ؟
امتثلتْ "هاجرُ" لقضاء ربّها ومتطلّبات نبوة زوجها ، ثمّ أفاقت على صراخ رضيعها الجائع الظّامئ والذي اخذ يضرب الأرض بقدمه من قوة معاناته ... أبصرت رضيعها على وشك الهلاك ، فأسرعت تجري لاهثة بين أول الطريق وآخره - الصّفا والمروة - يملؤها اليقينُ في كلِّ مرّة بأنّها ستجدُ عونا ما ، أو أحدا من النّاسِ ، أو سبباً من أسباب الرزق والحياة ...
** واجهت هاجرُ الهولَ باليقين فأكرَمها اللهُ بأنْ جعل ضربات قدم رضيعها الضعيف معولا يفجّر بئر " زمزم " فينسكبُ منه الماءُ الزّلالُ إلى يوم القيامة، وتتجمّع حوله الحياةُ إلى يوم القيامة فيتحوّل الوادي من طبيعته الجدباء المقفرة الخالية من الزرع والنّاس - يتحوّل - إلى وادٍ تتدفّق فيه المياهُ العذبة وتهوي إليه أفئدة النّاس ... ! كما كرّم اللهُ " هاجر " وأكرم خطاها الفزعة التي واجهت بها قضاءها ممتثلة لأمر الله - دون شكوى أو ضجر - كرّم خطاها بأنْ جعل هذه الخُطا الفزعة  ذهابا وإيابا مناسك عبادة خالدة إلى يوم الدّين يمارسها كل مسلم عند أداء العمرة والحجّ ، وكأن هرولة كلّ مسلم - ومسلمة - بين الصّفا والمروة استعادة للتجربة الإيمانية اليقينية التي واجهت بها " هاجر " قضاء الله ... إنّ إعادة خطا هاجر يبدو وكأنّه شحذ النفوس باليقين ، شحذ النفوس بالصّبر  والإيمان الكافيين لمواجهة الأقضية الإلهية التي لا تبدو حكمتها   للبصر ، بل تبدو حكمتها للبصيرة الإيمانية النّافذة فقط ... ! 

* لم يكن هذا هو الابتلاء الأخير لإبراهيم وأهله ، لم تكن المرّة الأخيرة التي يدفعه فيها ربُّه إلى مواجهة الهول بإيمانه ويقينه ... فهاهوذا يُريَه  في منامه رؤيا هي أمرٌ إلهيٌ وتكليف : أمرٌ بذبح ابنه الذي رزقه على الكبر : إسماعيل ... على أن يكون الذّبح بيديه هو لا بيدي غيره ...؟! إذن لم يكن هذا الأمر بالذّبح مقصودا لذاته  ، بل كان مقصودا لاختباراليقين الإيمانيّ  لإبراهيم - الأب - وإلاّ ما اشترط اللهُ سبحانه أنْ يكون الذّبح بيديه ... بيدي الأب ... ؟!  والذبحُ لمنْ ... ؟ للابنِ الذي وُلِد بعد دعاء وابتهالٍ لله عريض ... وكان مولده معجزة وبشارةً ...   لا قوّة إلاّ بالله ... 
قال تعالى :
 فبشّرناهُ بغلامٍ حليمٍ 101 ) فلمّا بلغَ معهُ السّعي قالَ يابُنَيّ إنِّي أرى في المنامِ أنِّي أذْبَحُكَ فانْظُرْ ماذا ترى قالَ ياأبتِ افْعَلْ ما تُؤمَرْ سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللهُ من الصَّابِريِن 102 ) سورة الصَّافات 
أترى إلى هذا المنطق الإلهي الذي يختبر به إيمان عباده المقرّبين ؟! لنتأمّل هذه المعادلة الإلهية العجيبة : 
التبشير بالغلام ثمّ الأمر بذبحه ( وهو الابن المُرتَجى ) ...! 
دفع اللهُ - سبحانه - إبراهيم - إلى مواجهة هذا الأمر العظيم ، وهيّأ له الأمر وجعله يمضي في التّجربة إلى أقصى ذروةٍ لها وكأنّه سيذبح بالفعل ... قال تعالى : 
" فلمّا أسْلَما وتلّهُ للجبين 103 ) وناديناهُ أنْ يا إبراهيمُ 104 ) قدْ صدَّقتَ الرُّؤيا إنّا كذلك نجزِي المُحسنين 105 ) إنَّ هذا لهو البلاءُ المُبِين 106) سورة الصّافات 
نعم إنّه البلاءُ المبين ... وهو يأتي على قدر الإيمان واليقين ... ، وكذلك يأتي الجزاءُ على قدر هذا اليقين ... قال تعالى : 
" وفديناهُ بذِبحٍ عظيمٍ 107 ) وتركنا عليه في الآخرين 108 )   سلامٌ على إبراهيم 109 ) كذلك نجْزِي المُحسنين 110 ) إنَّهُ منْ عبادنا المؤمنين 111 ) سورة الصّافات 
 يأتي الجزاء مدهشا للتوقّع البشري ، مذهلا لأنّه يخالف المنطق البشري والقدرة والخيال البشريين ... لكن ذلك عين العدل الإلهي  ؛ لأنّ الله سبحانه كلّف هؤلاء المُخلصين من عباده أنْ يواجهوا ما يفوقُ تحمّلهم وطاقتهم البشرية ، كلّفهم أن يواجهوا بإيمانهم ما يُسمّى - بشريّا - : اللامعقول  ... , 
وقد جنّب اللهُ إبراهيم هذا البلاء المبين لأن المقصود الإلهي  لم يكن إيقاع البلاء به أو بأهله  ، بل كان المقصود الابتلاء لإبراهيم  وأهله ،  وترك هذا الابتلاء مثلاً وعبرة وعظة للعالمين ...
وقد كرّم  اللهُ ذكر إبراهيم  وأهله في كتابه الكريم ، وأدرجه في المُحسنين والمؤمنين ، وقرأ عليه السلام وأقرأنا عليه السّلام  وعلى أهلهِ إلى يوم الدّين ... أيّ جزاء عظيم جليلٍ هذا ... وأيّ شرفٍ باذخ !

**  هذا البلاء المُبين  يصيبُ اللهُ به عباده في أثمن ما لديهم ، ويختبر إيمانهم حين يضعهم في خيار بين أثمن مالديهم وبين إيثارهم له - سبحانه - ... هكذا اختارموسى بين رضا ربّه وبين  مواجهة البلاء متمثلا في فرعون ... ، وهكذا خُيِّر موسى مابين  تصديق ربّه وطاعته وبين مواجهة السّحرة بــ عصاه ، ثم ابتلى اللهُ يقينه بأن دفع بهذا اليقين ليواجه به - موسى - عمق اليم وهول فرعون ورجاله ... ! 
كذلك وضع اللهُ إبراهيم - عليه السّلام - في منطقة فارقة  بين رضاه وطاعته من جهة  وبين ذبح ابنه ... 

***  من هذا المنطلق واجهت مريمُ عليها السلام هذا البلاء المبين ، واختبر المولى - سبحانه - طاعتها له ومدى إيثارها وجهه في أثمن ما تملك : الطّهر والعفاف ... ، فقد أرسل إليها الملكَ الكريم ينبئها أن الله اصطفاها لينفخ فيها من روحه ؛ فتحمل وتلد - بإذنه - وتحمل معجزته وكلمته وهي العذراء البتول التي لم تتزوج ولم يمسسها بشر ... وعليها أن تمتثل لهذا التكليف - والتشريف - الإلهي وأنْ تقوى على هذا الأمر وتمتثل له ، وأنْ تتصدّى لقومها بوليدها وتحتمل في سبيل ذلك ما يمكن أن تتحملّه أنثى طاهرة مثلها قد تقتلها النّظرة المُتشكّكة ...  مجرد النّظرة المستريبة  ...
على مريم أنْ تواجه بلاءً مبينا من طراز فريد لم تبتل به أنثى صالحة غيرها ، عليها أنْ تمرَّ بهولٍ عظيم قد يعجز بعض الرجالُ عن اجتياز آلامه ... ولم تكن تملك لمواجهة هذا البلاء غير يقينها بالله ، وثباتها الإيماني ... قال تعالى :
" واذْكُرْ في الكتابِ مريمَ إذْ انْتَبَذَتْ منْ أهلِها مكاناً شرقيّا 16 )  فاتّخذَتْ منْ دونِهم حجاباً فأَرْسَلْنا إليها رُوحَنا فتَمثّلَ لها بشراً سويّا 17 ) قالتْ إنِّي أعوذُ بالرحمنِ منكَ إنْ كنتَ تَقيَّا 18 ) قال إنّما أنا رسولُ ربِّكِ لأَهَبَ لكِ غلاماً زكيّا 19 ) قالتْ أنّى يكونُ لي غلامٌ ولم يمْسَسنِي بشرٌ ولم أكُ بغيَّا 20 ) قالَ كذلكِ قالَ ربُّكِ هوَ عليَّ هَيِّنٌ ولِنَجْعَلَهُ آيةً للنّاسِ ورحمةُ منَّا وكانَ أمراً مَقْضِيَّا 21 ) سورة مريم ...
### إنه الاختبار الإلهي العظيم القائم على ما يعتبره البشر مفارقة كبرى كما تمثّل في تساؤل مريم - في الآية السابقة - :
" أنّى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشرٌ ... ؟! ... 
المفارقة بين : الإنجاب / العُذريّة 
إنّها المفارقة ذاتها التي أحاطتْ بإبراهيم - كما في قوله تعالى :
" يا بُنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحُك " المفارقة بين :
موقع الابن من النفس / ذبح هذا الابن  
والمفارقة الثانية - كما في قوله تعالى :
" ربّنا إنّي أسكنتُ من ذريّتي بوادٍ غير ذي زرعٍ " ...
المفارقة بين : موقع الأهل من النفس / إلقاء الأهل في الجدب

*** وهكذا واجه يعقوبُ عليه السلام البلاء المبين ماثلا في حرمانه من قُرّة عينه " يوسف " عليه السّلام حتّى أتاه فرجُ الله ونصره ، وهكذا واجه " يوسف " عليه السلام البلاء المبين ماثلا في كيد إخوته ، وفتنة امرأة العزيز ، والاتهام الباطل ، ثم السجن حتّى وفّاه جزاء الله بسخاء عظيمٍ ...
وهكذا واجه الموقنون بلاءهم عبر التاريخ الإنساني الذي يؤكّدُ لنا أنّ البلاء يأتي على قدر اليقين ، وأنّ الجزاء يأتي من الله على قدر مواجهة البلاء  باليقين ...

****نسألُ اللهَ البصيرة التي تجعلنا نميّز بين الابتلاء والعقاب ، نسأل الله الرّشد والحكمة والجزاء الحسن ، نسأل الله الرّحمة واللطف في أقضيته ، نسأله الثبات في الأمر ... نسأله الصّبر والأجر الجميلين ... نسأله اليقين وثواب المحسنين ، وأن يقضي عنّا شرّ ما قضى علينا ... إنه العزيز الرحيم ... اللطيف ... الأرأم بنا من الأم الرّءوم ... الأقرب إلينا من حبل الوريد ...

                           بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 
   
                        

تعليقات