حيتانُ يوم السّبت : حظر تجوّل النّعم

*حيتان يوم السبت ليست  قصة بني إسرائيل وحدهم ، بل هي قصّة النفس الإنسانية في مواجهة  حكمة الله وعقوبته وعظيم تدبيره واستدراجه لمنْ يخرج عن صراطه المستقيم، ومن يبدّل نعمته ويغيّرها ، أو لا يُقدّر هذه النّعم  ... 

** أغدق اللهُ سبحانه على بني إسرائيل الكثير من النّعم ، وأنعم عليهم بالكثير من الآيات البيّنات الكفيلة بإدخالهم في زمرة  المؤمنين ، المُسبّحين له - سبحانه - لكنهم استعلوا واستكبروا وطَغوا ، واستهانوا بما أسداه اللهُ إليهم من الرزق والنّصرة والآيات الدّالة على وجوده ...

*** لقد أرسل اللهُ موسى - عليه السلام - إلى بني إسرائيل ،  ودعّمه بكثير من الآيات التي تثبت نبوّته ، ونجّى بني إسرائيل من كيد فرعون وعذابه  فأخذ آل فرعون بالعذاب والقحط والجوع ونقصٍ من الثمرات ...ثمَ أخذهم بالقمّل والجراد ، والضفادع والدّم  والطّوفان  حين تمادّوا في الكفر بما جاء به موسى من ربّه  ... ثمّ أخذهم بالرّجز والعذاب الأليم ... ، ثم كشف عنهم العذاب لمّا وعدوا موسى بالإيمان إن كشف الله عنهم عذابهم ثمّ نكثوا وعدهم فأغرقهم اللهُ سبحانه وأورث أرضه القوم المستضعفين الذين نالهم العذاب على يد آل فرعون ... أورث الأرض بني إسرائيل ، وأجرى عذابه وأوقع عقابه  على آل فرعون  بمرأىً  ومسمعٍ من بني إسرائيل  ... وحقّق سنتّه ونفّذ وعده بما يعدُ من أكبر الآيات التي أنزلها على بني إسرائيل  ... قال تعالى :
" وأوْرثنا القومَ الذين كانوا يُستضعفون مشارقَ الأرضِ ومغارِبها التي باركنا فيها وتمّتْ كلمةُ ربِّكَ الحُسْنَى على بني إسرائيل بما صبروا ودمّرنا ماكانَ يصنعُ فرعونُ وقومُهُ وما كانوا يعْرِشون 137 ) سورة الأعراف
وأمر الله نبيه موسى باجتياز البحر ببني إسرائيل ، فاجتاز بهم ، فلقوا قوما يعبدون أصناما فسألوا موسى أن يجعل لهم مثلها ، فذكّرهم بفضل الله عليهم ووعدهم له وناصحهم وأخذ عليهم ميثاقا ، ثم ذهب إلى لقاء ربّه في جانب الطّور يتلقّى الألواح وقد ترك أخاه هارون على قومه ...،  فلما رجع إلى قومه وجدهم يعبدون عجلا من الذهب الخالص صنعوه من الحُلِي التي أخذوها من مصر وخرجوا بها ! ... وجدهم يعبدون عجلا صنعه لهم السّامريُّ - كما أرادوا أنْ يكون لهم صنم وكما تمنّوا - وكان للعجل خوارٌ بفعل  الرّيح - إمعانا  في إضلالهم - ثم رجعوا إلى أنفسهم وطلبوا التوبة ...
* اشترط بنو إسرائيل على نبيّهم موسى أنْ يروا الله جهرة فأرسل عليهم الصّاعقة فأخذتهم ثم بعثهم ليشكروا ويتوبوا ...!وظلل عليهم الغمام ورزقهم المنّ والسلوى ...
لقد كان رزق بني إسرائيل   رغدا سمحاً متواصلا ، غير مشروط ، وقد وصف اللهُ هذا الرزق في  قوله - يخاطبهم ويُشهدهم على أنفسهم ويحصي عليهم نعمه - :
" وظلّلنا عليكُم المنَّ والسَّلوى كُلُوا منْ طيّباتِ ما رزقْناكُم وما ظَلَمُونا ولكنْ كانُوا أنْفُسَهُم يظلِمُون " سورة البقرة / الآية 57
وكذلك قوله تعالى :
" وإذ قلنَا ادخُلُوا هذه القريةَ فَكُلُوا منها حيثُ شئتُم رغدا وادخُلُوا البابَ سُجّدا وقولُوا حطَّةٌ نغفرْ لكم خطاياكُم وسنزيدُ المُحسنين " سورة البقرة / الآية 58
ومثلما أغدق اللهُ على بني إسرائيل الطّعام أغدق الماء الزّلال العذب ... قال تعالى :
" وإذْ اسْتَسْقى موسى لقومْه فقُلْنا اضربْ بعصاكَ الحجرَ فانْفَجَرَتْ منهُ اثنتا عشرةَ عيناً قدْ علِمَ كلُّ أُناسٍ مشرَبَهُم كُلُوا واشْرَبُوا منْ رزقِ اللهِ ولا تَعْثَوا في الأرضِ مفسدين " سورة البقرة / الآية 60
 
لكنّ بني إسرائيل سئموا هذا النّعيم ، ونفرتْ نفوسهم من هذا الترف ، وتدلّلوا على خالقهم يريدون منه غيره فقضى لهم بما أرادوا ... قال تعالى - سورة البقرة - :
" وإذْ قلتُم ياموُسى لنْ نصبِرَ على طعامٍ واحدٍ فادْعُ لنا ربّك يخرجُ لنا ممّا تُنبتُ الأرضُ منْ بقْلِها وقِثَّائها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قالَ أتستَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهْبِطُوا مصرا فإنْ لكُم ما سالْتُم وضُرِبَتْ عليهم الذّلّةُ والمسْكنةُ وباءُوا بغضبٍ من اللهِ ذلك بأنّهم كانُوا يكفُرون بآياتِ الله ويقْتُلُون النبيّين غير الحقِّ ذلك بما عصَوا وكانُوا يعتدون "   الآية 61
 
 * أسكن اللهُ بني إسرائيل القرية التي كانت حاضرة البحر ، وكان رزقها من البحر وفيرا ... لكن مشيئة الله أردت أن تُلقّن بني إسرائيل  - هذه المرّة - درسا من خلال هذه الوفرة من النّعم  أراد اللهُ سبحانه  أن يعلّمهم أنّ  وفرة النّعم ليست شرطاً للإنعام عليهم ، وأن النّعم لا تأتيهم من تلقاء ذاتها بل بأمرٍ منه وحده ، وأنّ الرّغد لا يتمثل في وجود الرزق فقط بل في مدى كونه متاحا ميسورا لمن يريده ...  أراد اللهُ أن يفهمهم أنّه يستطيع أنْ يبسط لهم في الرزق وأن يقبض عنهم هذا الرزق بإرادته وأنّهم لن يستطيعوا - في الحالين - فعل شئٍ وأنهم لا يملكون من أمرهم شيئا ... أراد اللهُ أنْ يوقع بهم البلاء بعد أنْ قلّبهم في النّعيم والرّغد ، وبعد أنْ انتصر لهم على أعدائهم ... أراد اللهُ لهم المذلّة بعد أنْ أراهم العزّة ونجّاهم من القوم الكافرين وأغرق أعداءهم أمامهم ... أراد الله بلاء بني إسرائيل فأحلَّ لهم  - وهو الأعلم بهم وبما سيفعلون -  صيدَ حيتان البحر كل أيّام الأسبوع وحرّمه عليهم يوم السّبت ... ثم جعل الحيتان  شحيحة عصيّة على الصيد  - لسوء أعمالهم - طوال الأيام التي أُحل فيها صيدُها  ... أمَّا يوم السّبت فقد جعل اللهُ الحيتان تملأ البحر حتى أنها تطفو على صفحة الماء وتبدو مشرّعة  مغرية بالصّيد  ... ! يقول تعالى :

" واسألْهُم عن القريةٍ التي كانت حاضرةَ البحرِ إذْ يعدُونَ في السّبتِ إذ تأتِيهُم حيتانُهم يومَ سبْتِهم  شُرّعا  ويوم لا يسْبِتُونَ لا تأتِيهم كذلِكَ نبلُوهُم بما كانُوا يفسقُون " سورة الأعراف

** إنّه تحوّلٌ عظيم في عطاء الله - سبحانه - لبني إسرائيل - لقد حوّلهم من الرّغد والسّعة إلى الضّيق ، ومن الرزقِ المُتاح إلى الرزق المشروط ، المحبوس في سياجاتٍ  ... ، من الرزق الممتزج برضاه وحبّه إلى الرزق المقصود به انتقامه وإمهاله لخلقه  واستدراجه لهم   وإذلالهم به  ... 
حيتان يوم السّبت رمزُ كل نعمة مقيّدة رغم إباحتها ... عصيّة رغم إتاحتها ...رمز كل عطاءٍ إلهي ظاهره نعمة وباطنه نقمة ... ظاهره منحة وباطنه بلاءٌ وعقابٌ واستدراج ... ! 
حيتانُ يوم السبت رمز العطاء الإلهي المستدرج والذي يأتي بعد الإمهالٍ وإقامة الحجة وضرب الأمثال لما يؤكد وجود الله وجبروته ...
حيتانُ السّبت عطاء العقوبة ومنحة النقمة وإغراء الغضب الإلهي ... إنها رمز ابتلاء الغرائز الإنسانية دون دعم من الله ودون تأييد من رحمته ... فلقد أطلق اللهُ - سبحانه - هذه الحيتان شُرّعا يوم السّبت وقد نزع يد رحمته من بني إسرائيل وانتوى اختبارهم وبلاءهم ... ، ووجدهم -  كعادتهم - يُعلون شأن غرائزهم على متطلّبات الطّاعة الإلهية فاعتدوا في السّبت وهُرعوا وراء الحيتان ... سقطوا في الأفخاخ التي نصبها لهم الخالق بعد طول إمهال ... فأزرى بهم اللهُ لعدوانهم ... عدوانهم على طاعته لا على الحيتان في حد ذاتها كحيتان ... فماكانت الحيتان إلاّ رمزا ، ونعمة مستدرِجة ، لم تكن إلا مخلوقا من مخلوقات الله سخّره اللهُ لعقاب بني إسرائيل ... يقول تعالى : 
" فلمّا عتَوا عن ما نُهُوا عنه قلنا لهم كُونوا قِردةً خاسِئين " سورة الأعراف / الآية 166 
على هذا النّسق كانتْ " ناقة صالحٍ " لقوم ثمود ... وعلى هذا النّسق من التدبير الإلهي تكونُ كلُ نعمة يمنحها اللهُ بعد إمهال وضرب حجج وموعظة وتذكير ... 
فلنحذر حيتان يوم السّبت إنْ لم تكن جاءت بعد في مياهنا ... وإن كانت قد وصلت وركضت وأشرعت يوم سبتنا فلنتجنّبها ، ولنسأل الله العفو والعافية والسلامة ... فلنسأله غفران الذنب الذي دفع هذه الحيتان إليها ... نسأله التّجاوز عن سيئاتنا ، وأن يمدّنا بمدده وأيده وحوله وطوله ، وأنْ ينظر إلينا بعين من الرّضا والحنوّ كما كان قبل أن نستهين ونطغى ، قبل أنْ يرسل علينا الحيتان تقضي على ما بقي لنا من أملٍ في الرّجوع إلى درب الله ... إلى حيث الأمن والعفو والرحمة والسكينة ... 
اللهم اغفر لنا الذنب الذي يجعلنا جديرين بحيتان السّبت ... اللهم اغفر لنا الذنب الذي أذلّنا ومكّن منّا الهمّ والنّصب ... اللهم أقلْنا من  عثرتنا واغفر لنا ذلّتنا التي قضت بذلّتنا ... اللهم ارفع قامتنا بجاهك ، واجبر كسرنا بقوّتك ... وارحمنا برحمتك واقض عنّا شرّ ما قضيت ... 

                               بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح 






تعليقات