الأطلالُ : ما بين بكاء الإنسان ... ، وتصوير القرآن


الأطلالُ هي بقايا كيانٍ تهدّم ، وآثارِ حياة انتهتْ ، وعلامات شاحبة تدلُّ على وجود شئٍ  ما  في زمنٍ ما ...
والأطلالُ جزءٌ أصيلٌ من الحياةِ الإنسانية  ، وإنّ وجودها جنباً إلى جنب مظاهر الحياة لدليلٌ قويٌ على الامتزاج العجيب بين الحيّ والميّت ، وبين الميّت والحيّ ، بما يتيح الفرصة الواسعة للتأمّل في الحياة وفي الفناءِ معا ... ، والتأمّل في البداية والنهاية    ، وبما يقطعُ الشكّ في وجود النهاية ، وفي أنّ هذه النهاية تنتظرنا وتتربّصُ بنا ... 


** إنّ التجاور بين الحياة والطلل ، بين الحياة والفناء لهو عينُ عدل الله ؛ لأنّه يقطع الحجّة على عباده الذين قد يبرّرون عجزهم عن مقاومة زينة الحياة الدنيا بأنّ هذه الزينة  كانت طاغية غالبة على الحياة ، وبأنّهم لم يروا أي علامة أو إشارة تدلّ على الموت و الفناء   ...! علم اللهُ ذلك في عباده  فمكّنهم من رؤية بدايات كلّ شئٍ ونهايته ... فقدّر الموت  في أعمار متفاوتة ، بحيث يتجاور - في الجيل الواحد - الرضيع والطفل والصبي والشباب والكهول والعجائز والذين بلغوا أرذل العمر ، فيدفن الحيُّ الميتَ ويبكيه ويرثيه ، ويعيش بعده فترة من الزمان يتأمّل  فيها الأماكن التي كان يعيش فيها  والتي دبّتْ فيها خطاه  ، واختلجت فيها مشاعرُه بالغضب والرضا ، والأمل واليأس ، والكِبر والخضوع ،  والعزّة  والمذلّة ، يتأمّل  آثاره وما خلّفه من ذكريات ،وأعمال سيئة و حسنة ، ومالٍ وبنين ، وزينةٍ - عاشت بعد صاحبها المائت  وانْتقلتْ إلى أيدي غيره -  ... شاءَ اللهُ تعالى أنْ يتجاور الحيُّ مع الميّت في الحياة  ، وأن تكونَ الأطلالُ - وهي بقايا الراحلين - جزءاً لا يتجزّأُ من الحياة ... ! 
* والأطلالُ ليست بقايا المائت فقط ، بل هي بقايا كلّ راحلٍ مُغادر سواء كانت المغادرة والرحيل  إلى مكان أو إلى زمان  مختلف ؛ فهي المنزل الخالي الذي تركه أصحابه لمنزلٍ آخر ... هي الثّيابُ التي ضاقت أو بليت فارتدى أصحابها غيرها ... هي المخترعات التي مضى زمنها واستحدث البشر غيرها ... هي أصدقاءُ الطفولة ومدارس المراحل الدراسيّة الأولى ، هي البهجة السّاذجة   التي كنّا نستشعرها- ونحن صغار - في ليالي العيد ووقت نزول المطر ومداعبة الطيور والدّواجن ... هي الفرحة التي ولّت والضحكات الصّافية التي كانت تهزّ أجسادنا الصغيرة حين نلطّخ أصدقاءنا بألوان الرسم ، أو حين نُوقع بهم في ماء المطر ... تلك الضحكات  صارت من أطلالنا ، لأنها لا تأتينا - ولن تأتينا  - بهذا العمق وبهذه القوّة مهما فعلنا ؛ ذلك لأنّ الوعي والبهجة لا يجتمعان ... لا يجتمعان ! 

** الأطلالُ جزءٌ أصيلٌ منْ كِياننا ، وليست أشياءً تُحيطُ بنا ؛ فهي فينا ، بل هي مِنّا ، فقد شاء اللهُ الحكيم القدير أنْ يكونَ تكويننا ذاته محتويا على أطلال ؛ فخلايانا تتجدّد كلَّ يومٍ ، ومنْ ثمّ   تتجاور الخلايا الجديدة مع المتهدّمة حتّى يتخلص الجسم من الأخيرة ... ،  نغسل وجوهنا في الصّباح  فنزيلُ البشرة القديمة ونفتح الطريق  للبشرة الجديدة التي ولدت في اليوم الجديد ...  يتساقط منّا شعر الرأس الضعيفُ ويولد غيره ، تتصادم فينا - وعلى مرأىً منّا ومسمع - أفكارُنا القديمة واتجاهاتنا الجديدة ، مشاعرنُا الأولى تجاه الأشياء ومشاعرنُا المغايرة لها ، بداياتنا وحياتُنا الحاليّة ، ... ، وهكذا يُزاحم الموتُ فينا الحياة ..,وتُزاحمُ الحياةُ فينا الموت ، ويتجاور - فينا الضّدان - بلْ الأضّداد جمِيعُها ، وتتصارع فينا الأزمنة  التي  عشناها والتي نود أن نعيشها  معا ، وهي : الماضي والحاضر والمستقبل ... ونحنُ في غفلة عن الحكمة الإلهية من هذا التّجاور ... في غفلة عن هذه الحكمة الإلهية الرحيمة التي أرادت أنْ تتيحَ للإنسان معاينة بداية كلّ شئٍ ونهايته ، وأنْ يتأمّل فتوّة الزّينة وفنَاءها ؛ يتأمّل القوة والصّحة في اكتمالهما ثمّ يرى في ذاته و- وفيمن حوله - الوهن والضعف والمرض والإعاقة والإصابة ... يبصر الثراء ويعيشه ثم يرى تحوّل الأيام وضياع المال وتغيّر الحال وتبدّله ، يعاين دُوَلاً وأُمَما وشعوباً كاملة تتبدّل أحوالُها وتتغيّر مصائرها وتنتقل من ضدٍّ إلى ضدٍ ... يرى قرية كاملة - أو مدينة أو دولة - يبيدُها زلزالٌ أو سيلٌ أو فيضانٌ أو إشعاعٌ فيصمتُ صوتُها بعد ضجيجٍ ، وتُذكَرُ  ضمن تراث البشريّة بعد أن كانت حاضراً يملأ الحواس، وواقعا ملتهبا بالحماس والمنافسة ، أو التهديد ، أو الطموح والجموح  ... ! 
*** إن الحكمة الإلهية واضحة المغزى ، وواضحة الرحمة ... ؛ فقد أراد سبحانه لعباده - وهم الضّعفاءُ ألاّ ينبهروا بزينة الحياة الدنيا ، وألاّ يفتنوا بمظاهر الحياة ساعة اكتمالها وفتوتها ، أراد لهم أن يكونوا أصحاب بصيرة لا أصحاب بصرٍ فقط ؛  فأطْلَعهم  على النهايات حتّى لا تخدعهم البدايات ... أراد أن يكونوا له ، أنْ يكونوا عباده ، لا عباد الحياة الدنيا ، أراد أن يخضعوا له ، وأن يؤثروه ، وأن يُولُّوا وجوههم صوبه  لا صوب العابر المزيّف الزّائل الفاني ... فجمع لهم طرفي النقيض : البداية  ، والنهاية ، وأراهم كيف تكون آثارُ الفناء ، وكيف تكونُ آثارُهم بعد أنْ يموتوا ويصبحوا أحاديث وذكريات، ...  بعد أن كانوا يملأون الحياة ضجيجا وصخبا وفعلا ، وبعد أنْ كانوا يظنّون أنّهم سيخرقون الأرض وسيبلغون الجبال طولا ... أراد اللهُ أنْ يهدئ من ثائرة إقبالنا على الحياة الدنيا ، وأن يهذب عنفوان غرائزنا وأطماعنا في الحياة ، وأنْ يطلعنا على الفناء حتّى لا ننخدع فيما يوسوس به الشيطان إلينا ويلوح به لنا ، وهو : وهم الخلود ... أرادت حكمة الله الرحيمة هذا الخير لنا ، أرادت حكمة الله أن  تكون هذه البصيرة الواعية  دعامتنا في التعامل مع الحياة الدنيا فجعل الأطلال جزءا  من مسيرة حياتنا ، جزءا من نسيج حياتنا  تجاورنا وتعيش فينا ليل نهار ... ليل نهار... ،  حتّى نستفيق ، حتّى نرى ... حتّى نعلم ، حتّى نؤمن ، حتّى نوقن ، فإذا  وصلنا إلى اليقين رزقنا اللهُ الحكمة  فإذا أُوتينا الحكمة أوتينا الخير الكثير ... 


                     
                     الأطلالُ في التناول الإنساني 


**** غفل كثيرٌ من النّاس عن الحكمة الإلهية التي أرادت تهوين شأن الحياة الدنيا في عين البشر من خلالِ هذا  التجاور العجيب   بين فتوّة الحياة ، وبين الأطلال - التي هي بقايا الحياة -  ... ولذلك  لم تكن الأطلالُ  عند هؤلاء موضعا للتأمّل والتدبّر في نهايات الحياة وحقيقتها ، أو موضعا لإدراك حقيقة المصير الإنساني ، أو الوعي بمدى ضعف الإنسان وقابليته للزوال ، ومدى ضعف الحياة بأسرها ... لم تكن الأطلال عند كثير من الناّس مجالا لليقين بأنّ كل شئٍ هالكٌ لا محالة و أنّه لا يبقى إلاّ وجهُ الله ... لم تكن موضعا لرؤية الضعف الإنساني ومعاينة الزوال والفناء ، لم يخطر على بال هؤلاء أنّ الأطلال مجالٌ صادق رحبٌ  طرح فيه المولى - سبحانه - صورة مصغّرة للخراب والفناء الذي سوف يلحق بالوجود كلّه يوم القيامة ... وأنّ الآطلال صورة مصغّرة نعاين فيها موتنا - الفردي والجماعي - نعاينُ فيها الهيئة التي سوف تكون عليها أجسادنا بعد أنْ يأكل منها الفناءُ ويشرب ، والهيئة التي سوف تكون عليها أماكننا ومواقعنا ، وكل ما سوف نخلُفه بعدنا ... بعد موتنا وزوالنا ... بعد أنْ نصبح ذكرى عابرة خاطفة تدمع لها عيون الأحبّة قليلا  ثم تعاود مسيرتها في الحياة ... نعم سوف نصبح ذكرى عابرة في حياة لا تتوقف لموتنا  ، ولا ترتبك خطاها إذا خلا يومها من ملامح وجوهنا ... سوف نُوضعُ في يومٍ ما في جملٍ وعباراتٍ مليئة بالأفعال الماضية - كان ... كان ... كان - لأنّنا سوف نصبح ماضيا ، وسيأتي يوم يصبح فيه من المحال أن تُنسبُ إلينا أفعالٌ للحاضر أو المستقبل ... نحنُ إذن أطلالُ الغد المرصودة في قائمة الانتظار ... ومع ذلك لا نعتبر بالأطلال التي سبقتنا والتي تركت آثارها في الأرض لنا...  تدلّنا على أنّها كانت مثلنا تدور في فلك الأمنيات والرّغائب ، وأنها كانت مثلنا مفتونة بزينة الحياة الدنيا ، وأنّها ظلّت تدور وتدور في فلك عقيم لا يتخطّى بضع كلمات مكرورة في التاريخ البشري ، وهي : ( أريد ، أتمنّى ، أرجو ، أطمع ، أخاف ، أحزن ، أأمل ، أخشى ... ) ، ثم انتهى الدّوار إلى سكون الموت دون أنْ تقوم  الروح  بما كُلّفت به وخُلِقتْ من أجله ... دون أنْ تتزوّد للحياة الحقيقية القادمة ، وهكذا تبدو مثل هذه الروح ككيانٍ ضالٍ قدم الحياة دون خارطة طريق ... ، فظل يتخبّط في الطرقات والحارات المظلمة - وهي زينة الحياة -  تنهشه الكلاب الضّالة وعصابات الظلام ووحشة الليل والأصوات الغامضة المخيفة إلى أنْ قضى عليه أحد هذه المخاطر فانتهى أجلُه دون أنْ يضيف إلى الحياة شيئا ودون أن يفيد هو  شيئا ... ، وأصبح مصير هذا الكيان أنْ صار جثّة بالية ، وبقايا خربة ترمز إلى وجود كيانٍ ما في زمنٍ ما دون أي هدف أو غاية واضحة ... 


* إنّ التناولَ الإنساني لقضية الأطلال تناول يؤكّد الغفلة عن الحكمة الإلهية من تجاورها مع الحياة ؛ فالتناول الإنسانيُ للأطلال يؤكّد تهافت الإنسان على الحياة وتمسّكه بزينتها ، وفجعه من زوالها - أو تغّير أحوالها معه - ... ، إنّ هذا التناول يؤكّد أنّ الإنسان لا يتأمّل الأطلال باعتبارها عبرة وعظة وجرس إنذار يُذكّر بالآخرة ويوصي بالعمل لها ، بل يؤكد أن الإنسان - في عمومه - يتخذ من الأطلال معرضا للبكاء على الحياة الدنيا ، والحسرة عليها ، والمزيد من التمسّك بها ، والتشبّث ببقائها وإقبالها عليه ، بل والتّشبث بفتوّتها وفتوّته فيها وكأنّ الزمان لا يمر ، والحياة لا تمضي ... ، وسنّة التّغيير لا تتحقق ... ! 
الأطلالُ في التناول الإنساني تدينُ الوعي الإنساني وتثبتُ تهالكه على الهالك العابر ، تثبتُ استمرار حلمه وتصديقه لوهم الخلود الذي منّانا به إبليس وأنزلنا بموجبه من الجنّة ... ، تثبتُ أن الإنسان اطمأنّ إلى الحياة الدنيا وارتكنَ إليها ؛ ومن هنا تُفجِعه وتُحْزِنه أطلالُها ... ! 
                     
                       البكاءُ على الأطلال 
**الدليل القاطع على هذا التناول الإنساني الفاجع للأطلال  هو التلازم الدّائم بين كلمة الأطلال وفعل البكاء ... ، فالأطلال لا تُذكر - في الكتابات الإنسانية - إلا مقرونة بفعل البكاء عليها ... ولعلَّ الشعر العربيّ القديم - يعدّ دليلا وشاهدا على هذه الرؤية الإنسانية القاصرة لقضية الطلل ؛ فقد كان البكاءُ على الأطلال جزءا أصيلا من أجزاء القصيدة العربية القديمة في العصر الجاهلي وصولا إلى العصر العبّاسي ... ! بل كان البكاء على الأطلال هو المقدّمة والمُفتتح للقصيدة العربية القديمة باعتباره منهجا شعريّا عربيا أو سنّة شعريّة عربية تميّز هذا الشعر وتحفظ أصوله وقِيمه وهويّته ... ! 


* يعدُّ الشاعرُ الجاهلي " امرؤ القيس " أوّل شاعرٍ عربيٍ وقف على الأطلال  ، وأوّل منْ طلب من صحبه الوقوف عليها ، وهو أوّل من  بكى على الأطلال ... وأبكى عليها ! وقد أثبت له العربُ ذلك الأمر على سبيلِ تخليد ذكره ! فقالوا : إنّ امرئ القيس هو أوّلُ منْ وقف على الديار واستوقف صاحبيه وأوّل من بكى وأبكى ... وذلك لأنّه طلب من صاحبيه اللذين يرافقانه في رحلته أن يشاركاه الوقوف على أطلال حبيبته المتناثرة في أماكن في الجزيرة العربية هي : سِقط اللّوى ، والدَّخول ، وحَوْمَلْ ، فقالَ في  مطلع معلّقته : 
قِفَا نَبْكِ منْ ذِكْرى حبيبٍ ، ومنزلِ  
                        بسِقْطِ اللِّوى بينَ الدّخولِ فَحوْمَلِ 
وقفواً بها صَحْبي عليَّ مَطيّهم 
                        يقولون : لا تهْلِك أسى ، وَتَجَمَّلِ 


وقدْ أُغْرِم العربُ بقوله هذا ، ورَأوا فيه مُتَنفّسا للشكوى من الفناء وتقلّبات الدهر ، ومتنفّسا للتعبير عن التّفجع من رحيل الأحبّة ، وتبدّل أحوال الأيام ، وتحوّل فتوّة الحياة إلى طلل ... فقلّده الشعراءُ منْ بعده ، فقال " طرفةُ بن العبد " - وهو شاعرٌ جاهلي آخر- يبكي بقايا صاحبته " خَوْلة "  ويتحسّر من مرأى أطلالها - في  موضع يُسمّى " بُرْقةِ ثَهْمَد" - : 


لِخَوْلَةَ أطلالٌ بِبُرقةِ ثَهْمَدِ        
              تلوحُ كباقِي الوشمِ في ظاهرِ اليدِ 
وقوفاً بها صَحْبي عليّ مَطيّهم  
              يقولونَ : لا تهْلِك أسى ، وتجلّدِ 



** بكا الإنسان أطلال كل شئ يتّصل بحياته : الزمان ، والمكان ، والشخوص  ... 
قال لسانُ الدين بن الخطيب -  الشاعر الأندلسيُّ -  يبكي زمان سعادته  الذي ولّى كأنّه حلمٌ بالمنام  ،أو خلسة خفيّة ،  ويدعو له بأن ينزل عليه الغيثُ فيحييه : 
جادكَ الغيثُ إذا الغيثُ هَمَى        
                     يا زمانَ الوصلِ بالأنْدَلُسِ 
لمْ يكنْ وَصْلُكَ إلاَّ حُلُما              
                   بالْكَرى ، أو خِلْسَةَ المُخْتَلِسِ 
                    
          الإنسانُ لا يبكي على الأطلال بل على نفسه 


وأصبح البكاءُ على الأطلال عادة شعرية تمسّك بها العربُ القدامى؛  لأنّها - كما يزعمون - تعبّر عن أصالة القصيدة العربيّة وتؤكد هويّتها ... ! لكنّ التمسّك بالمقدمة الطللية يكمن وراءه سببٌ آخر أكثر قوة وأكثر صدقا واتصالا بالنّفس الإنسانية ، هذا السبب هو : حاجة النفس الإنسانية إلى التعبير عن رهبتها من الفناء ، ورهبتها من آثار الزمن وسيرورته التي تحوّل الأشياء من القوة إلى الضعف ، ومن الفتوة إلى التحلل ، ومن الوجود إلى التلاشي ... المقدّمة الطللية في القصيدة العربية لا تصوّر أصالة الشعر العربي بقدر ما تصوّر طبيعة النفس الإنسانية في صراعها مع الفناء والبِلى ، وحزن هذه النّفس على ذاتها - أو على نفسها - فالذات الإنسانية في هذه القصيدة - وهي ذات الشّاعر - ترثي  لحالها و تبكي موتها بشكل غير مباشر ، أي أنّ الشاعر يبكي ذاته ويرثي نفسه من خلال البكاء على الأماكن المتهدّمة التي تخلّفت من الأحبة ، والبقايا الضّعيفة الشّاحبة التي بقيت منهم ودلّتْ على أنهم كانوا هنا في يومٍ ما ... الشاعرُ يبكي نفسه ويتفجّع على موته الشّخصي الذي لن يطّلع عليه ولن يراه ، فالمائت هو الكائن الوحيد الذي لا يشهد موته... ، وإنّما يرى موته في موت الآخرين ... وهكذا كانت البكائيّة الطللية مجالا للبكاء على النفس ورثائها ... ، مجالا للبكاء على الحياة والتحسّر على فواتها ، مجالا للبكاء على الأحبّة ، والتعبير عن فجيعة فقدِ زمانٍ ما ، ومكان ما ، وأُناسٍ ما ، والتعبير عن فجيعة فقد الذّات التي ستفنى في يومٍ ما مثلما فنِيَ الزمان والمكان والأحبّة ... 
لذلك كلّه - فيما أرى - لاقت المقدّمة الطللية قبولا واستحسانا وتمسكا بها من الشعراء ، لأنّها صادفت من النّفس هوى وميلا ، وناسبت الرّغبة في التعبير عن التمسّك بالحياة ، والعويل الإنساني على ضياع وهم الخلود ... 
استمرّت المقدّمة الطللية ، وصارت جزءاً من جسد القصيدة العربية ، بل هي أوّل ما يطالع القارئ - أو السّامع - وكأنّ الشاعر يؤكّد أنّ الفناء أولى بتقديمه على الحياة ، وأن الموت والبِلى والطّلل هم الأصل بينما مظاهر الحياة التي سوف ترد في بقية أبيات القصيدة هي الفرع ، هي الزّائف ، هي العابر ... 
وإذا ما تأمّلنا الإبداع الإنساني - في جوانبه المختلفة - سنجده يدور حول إشكاليّة الأطلال وقضية الفناء ؛ فهذا الإبداع لا يخرج عن أن يكون بكاء على الأحبّة أو الصّبا والشباب ، والفتوة والأمنيات والأحلام الجميلة ، أو أن يكون محاولة لتخليد ملامح هذا كلّه في الذاكرة الإنسانية ... إن الإبداع الإنساني في شتّى أنواعه الفنيّة والأدبيّة لا يخرج عنْ كونه بكاء على أطلال  ماولّى وفات ، أو محاولة  تخليد وتثبيت ملامح هذا الذي يولّي ويفوت - كما في فنّ النحت والرّسم والقصص ... وكأنّ الإبداع الإنساني ينزع إلى محاولة تجميد الزمان وإيقاف المكان وذلك لتخليد الإنسان وانتزاعه من الفناء ... !


                   الأطلالُ في الطّرح القرآنيُّ 


الأطلالُ التي ورد ذِكرُها في القرآنِ الكريم ، والتي احتفتْ الآيات بتصويرها ليست هي الأطلالَ التي استهوت انتباه الإنسان ... ليست طلل الأحبّة ، أو مكانٍ بعينه ، أو زمانٍ بعينه ... 
الأطلالُ التي صوّرها القرآنُ الكريمُ هي مجموع الحياة الدنيا بأسْرِها ... هي مجموع الزمان والمكان والإنسان الذي عاش فيهما ... فالطّللُ هنا كيانٌ هائلٌ ضخمٌ ضخامة حياتنا الإنسانية كلها ، وضخامة وجودنا الإنساني كلّه ... 
يقولُ تعالى - سورة يونس - : 
" إنّما مثلُ الحياةِ الدُّنيا كَماءٍ أنْزلنَاهُ من السَّماء فاختَلَطَ به نباتُ الأرضِ ممَّا يأكلُ النَّاسُ والأنْعامُ حتَّى إذا أخَذت الأرضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظنَّ أهْلُها أنَّهُم قادِرونَ عليها أَتاهَا أَمْرُنا ليلاً أو نَهاراً فَجَعَلْنَاها حَصِيداً كَأَنْ لمْ تّغْنَ بالأمسِ كذلكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لقومٍ يتفكَّرون " الآية 24 

ويقولُ تعالى - في سورة الكهف - : 
" واضْرِبْ لهم مثلَ الحياةِ الدُّنيا كماءٍ أنْزلْناه من السَّماءِ فاخْتَلَطَ به نباتُ الأرضِ فأصْبَحَ هشِيماً تذْرُوهُ الرِّياحُ  وكان اللهُ على كلِّ شئٍ مُقْتَدِرا " الآية 45 

 و ينبّه  تعالى الإنسان إلى أنّ الزوال سيلحق به ، و بكل شئٍ ، ولن يكون هناك مجال لبكاءِ أحدٍ على أحدٍ ، ولا تفقّد أحد لأطلال أحد ٍ ... يقول سبحانه - في سورة القصص -  : 
" ولا تدعُو مع اللهِ إلهاً آخرَ لا إلهَ إلاَّ هوَ كلُّ شئٍ هالكٌ إلاَّ وجْهَه لهُ الحكمُ وإليه تُرْجَعُون " الآية 88 


الفناءُ- في الآيات السابقة -  يلحقُ بمجموع الحياة الدنيا ، فالحياة كلّها زائلة ، أمّا الطللُ المُتَبقِّي منها فهو هيّنٌ هشٌ ضئيلٌ ... أشارت إليه الآياتُ بكلمة " الحصيد " ، و" الهشيم " 
وكلا منهما بقايا هشّة ضعيفة تطيح بها الرّياح هنا وهنا ... 
وهذه الأطلالُ لا يستطيع أحدٌ الوقوف عليها والبكاء على أصحابها واستدعاء ذكرياتهم ؛ لسبب بسيط ،هو أنّها أطلال كل البشر ؛ فلن يبقى أحدٌ للبكاء على غيره ، ولن يتمكّن إنسانٌ من التّأسي على ذكرى رفيقه ... 
إذن الغاية من  تصوير زوال الحياة الدنيا ، وتصوير بقاياها وأطلالها في القرآن الكريم له هدف واحد عميق ، وحكمة إلهيّة جليلة هي العظة والاعتبار ، والاستعداد ليوم الرّحيل ... 
الحكمة الإلهية من تصوير فناء الكون وبقاياه في القرآن هي تمكين الإنسان من رؤية الحياةفي صورتها الحقيقة دون تزييف ودون بهرج وزينة من خلال تصوير نهايتها ... 
الحكمة الإلهية من تصوير أطلال الحياة الدنيا هي تنبيهنا إلى أنّ لكلّ منّا طلله المُدّخر ، أي أنّ لكلٍ منّا نهايته القادمة وساعة موته المحتومة والتي سوف يكون فيها الإنسان خبرا بعد أن كان كيانا ، سوف يكون أثراً ... بقايا بعد أنْ كان جسدا يملأ المكان ويسير في الزمان ، سوف يصبح كل منّا خبرا ... طللا ... ذكرى وبقايا ... فلماذا إذن ندبّ في الأرض ظلما وكِبرا واختيالا أحمق ونظنّ أنّا سوف نخرق الأرض ونبلغ الجبال طولا ؟ّ لماذا هذا الضّلال ونحن مشروع نفايات قادمة وأطلال متهدّمة في ساعة معروفة مدوّنة في الغيب ... ؟! 
إن تصوير أطلال الحياة الدنيا في القرآن يحدّ من حمق الإنسان وعُجبه بنفسه ، وتجاهله مصيره ... 
وشتّان مابين تصوير الأطلال في الطرح الإنساني والطرح الرقآني ؛ فتصوير الأطلال في الإبداع الإنساني بكاءٌ عليها وتمسّك بها ، وتحريض على المزيد من الإقبال على الحياة ، والتفجّع عليها والحسرة على فوات أي شئٍ منها ... معالجة قضية الأطلال في الشعر العربي خاصّة - والإبداع الإنساني عامة -بمثابة الأفخاخ التي تُوقع بالنّفس الإنسانية في شرك الشغف بالحياة والتعلّق بها والبكاء عليها والمبالغة في تقدير قيمتها ن ومن ثم الحسرة على كل مافيها ... بما يعني التلهّي عن الغاية التي خُلِقنا من أجلها ... أمّا الطرح القرآني لهذه الأطلال فهو طرح حكيم للعظة والعبرة والتوازن النفسي ، وتنشيط البصيرة ، والمزيد من الوعي في إدراك حقيقة الحياة الدنيا ، ومن ثم إدراك الهدف من وجودنا فيها للتزوّد بما يعبن على الرحلة إلى دار اليقين والحق حيث لا فناء ، ولا طلل يثيرُ البكاء ... 


                                    **** 


                                      بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح 


                     







تعليقات