البقرة ... والعجل ... وغيابُ الوعي الإنساني

*** اضطرب أمرُ بني إسرائيل في حقيقة قتل واحدٍ منهم ، فأراد اللهُ  - سبحانه - أنْ يؤكد لهم أنّه حقٌ  ، وأنه عالم  بالغيوب ، وأنّهم في ضلالٍ دون هديه ؛  فأوحى إلى نبيّه موسى أنْ يأمرهم باتِّخاذ بقرةٍ ، وذبحها ، ثمّ ضرب الميِّت ببعض أجزائها فإذا هو حيٌّ قائمٌ متكلّم ، يخرجُ سِرّه  ، و ينطقُ باسم منْ قتله ثمّ يعود يمضي لعالم الموت ثانيةً ...
قال تعالى - سورة البقرة - 
" وإذْ قالَ موسى لقومه إنّ اللهَ يأْمُرُكُم أنْ تذْبحوا بقرةً  قالوا أَتَتّخِذُنَا هُزُوَا قالَ أعوذُ باللهِ أنْ أكونَ من الجاهِلين " الآية 67 
وقال تعالى - في السّورة ذاتها -  : " وإذْ قَتَلْتُم نفساً فادَّارَءْتُم فيها واللهُ مُخرجٌ ما كُنتم تكتمون 72 ) فقُلنا اضْرِبُوهُ ببعضِها كذلك يُحيِي اللهُ الموْتَى ويُرِكُمْ آياتِهِ لَعلَّكُم تَعْقِلُون73 ) 


 رأى بنو إسرائيل هذه المعجزة بأعينهم واطّلعوا عليها بحواسّهم مباشرة ... أي أن هذه المعجزة كانت حدثا واقعيّا ، ولم تكن حكاية أو رواية نُقِلت إليهم عبر رُواة ، ولم تكن معجزة خاصّة بموسى - عليه السّلام - شهدها وحده ثم قصّها عليهم ... كانت واقعاً محسوسا ملموسا مرئيّا ... شهدوا البقرة تّذبح أمامهم ، ثم شهدوا بقية التفاصيل ... ومع ذلك ... وحين ذهب موسى للقاء ربّه عند الجبل ليلقّى منه التوراة قام بنو إسرائيل بعبادة عجلٍ ... ! نعم عبادة عجلٍ ... لا يختلف عن البقرة التي رأوها تُذبح في أيّ شئٍ - سوى الذكورة والأنوثة - وكأنّهم غفلوا عن الآية التي ساقها اللهُ لهم من خلال ذبح البقرة ...وأنّ البقرة مجرّد حيوانٍ يُذبح ويؤكل ويتّخذُ وسيلة - ظاهريّة فقط ليثبت اللهُ بها قدرته على إحياء الموتى ... ولو علم اللهُ فيهم خيرا وعقلا وهداية وإدراكا لأثبت لهم قدرته على إحياء الموتى دون حاجة لضرب الميت بجزء من جسد البقرة ، لكنّه علم فيهم الحسيّة والمباشرة في التفكير والمادية في إدراك الأمور والغلظة في الطّباع ، وعلم فيهم غلبة الشك على اليقين ، وحب الجدل والمماطلة على الحق ، واستحباب العمى على الهدى فأراهم معجزة حسيّة جعل فيها جسد البقرة المذبوحة وسيلة خارجية لإحياء الميّت ونطقه وذلك من رفقه بهم وبعقولهم حتّى يستطيعوا استيعاب كيفية الإحياء ... 
ورغم كل ذلك غفلوا عن المعجزة ، وعن الله القادر على مثل هذه المعجزة ، وغفلوا عن العظة والدرس المقصودين بقصّة إحياء القتيل ... وتوقّفت عقولهم عند البقرة ... واختزنتْ عقولهم ملامح البقرة ، ولا أستبعد أنْ يكونوا قد رأوا فيها شيئا ما خارقاً يفسّر لعقولهم المحدودة سرّ إحياء القتيل ، وأنْ يكونوا قد توسّموا فيها سرّا إعجازيّا ما  جعلهم ينبهرون بجنسها فيبادرون بعبادة العجل بعد ذلك ، متغافلين عنْ كونها حيوان لا يعقل ولا يملك لنفسه شيئا بدليل ذبحه ... ! 


**  شبيهٌ بهذا ماكان يفعله العرب في العصر الجاهليّ ؛ فقد كان الرجل منهم يصنعُ تمثال إلهه بنفسه ، يصنعه من التّمر الليّن ، ثمّ يُجفّفه في الشمس ، فإذا استوى التمثال بين يديه قام بالمثول بين يديه والابتهال عند قدميه صباحا ومساء - وهو من صنع يديه - فإذا ما قرصه الجوعُ التهم هذا الإله المصنوع من التمر ... ! 


*** وكان الرجلُ العربي في العصر الجاهليّ - أيضا - إذا ارتحل من مكانٍ إلى مكانٍ آخر ؛ سعيا وراء المطر ، أو هربا من إغارات القبائل ، أو هجمات الطبيعة - كان أول ما يقوم بفعله هو البحث عن أربعة أحجار كبيرة قويّة ؛ وذلك لهدفين  جليلين : 
الأول : اتّخاذ ثلاثة أحجار منها كموقد للطعام ، حيث توضع الأحجارُ الثلاثة بجوار بعضها - في هيئة مثلّث - ويترك بين هذه الأحجار حفرةً لوضع الحطب المشتعل ، ثم يوُضع إناء الطّعام الكبير فوق هذه الأحجار ... 
الهدف الثاني : هو اتّخاذ الحجر الرّابع للعبادة ؛ حيث يقوم الرجل بنحته على هيئة إلهه الوثني ، أيّا كانت صورة  هذا الإله - على هيئة إنسان أو حيوان أو نبات - ثم يقوم بالابتهال بين يديّ هذا الحجر ليلَ نهار ، ويذبح عنده القرابين تقرّبا منه حتّى لا يغضب منه أو عليه ... وهكذا ... وهو غافلٌ عنْ أنّ معبوده منْ صنع يديه - وليس العكس - حتّى إذا احتاج هذا الحجر ( الإله ) استخدمه دون تردّد سواء للدفاع عن النفس ، أو لوضعه تحت إناء الطّعام ، أو تدعيم الخيمة به ضد الرياح أو الإعصار ... إلى آخر هذه الغايات ، ثم يقوم بالبحث عن حجر آخر ليكون إلها آخر ، ثم ... ، ثمّ... ! 


**** 
نحنُ ... الآن ... - بل دائما -  ... يرى كلٌّ منّا الآخر ، ويعلم أنّه مثله في التّكوين والقدرات والعجز والمحدوديّة ، نعلم أنّ الآخر  مخلوقٌ مثلُنا لا يملك لنفسه شيئا دون الله ، نعلم أنّ الآخر من البشر محدود الجسد ، والقدرة ، وأنّه مُبتلى مثلنا في صحّته أو ماله ، أو ولده ، أو عمله ، وأنّ ناقصٌ مثلنا ، مائتٌ في يومٍ ما  ... ومع ذلك فإنّ كثيراً منّا يتوجّه بابتهالاته وقرابينه وتوسّلاته ومذلّته إلى إنسانٍ 
مثله لا يملك له ضرّا ولا نفعا ... لكنّه يهابه لأنّه رئيسه في العمل ، لأنّه ثري ووجيه في المجتمع ، لأنّه صاحب نفوذ أو سلطة حاكمة ، وصاحب كلمة نافذة ، ... لأنّه ... ، ولأنّه ... 
هذه الفئة من النّاس شبيهة - في رأيي - بعابد الإله التّمري ، فهي تتّخذ من دون الله أندادا ... تتوسّل  وتبتهل وتتبتّل لغير الله ، وتعتقد القدرة والقوة والعظمة في غير الله ، وتخشى غير الله ، وتوّقره وتهابه وتخلص في تقرّبها إليه ، وتتذلّل ، وتبذل لغير الله ما يزيدها ذلاَّ ومهانة وضعفا واحتياجا للآخرين ، ولو بذلتْ بعض هذا كلّه لله وحده بإخلاص لأنعم عليها بالعزة والكرامة والمهابة والاستغناء عن الآخرين ، فضلا عن تلبية حاجاتها من مسائل الدنيا والآخرة ... مثل هؤلاء يقضون أعمارهم في وثنيّة  تنتهي بمأساة اكتشافهم بأنّهم يعبدون أمثالهم ممّن لا ينفع ولا يضرّ منْ ليس في يده الأمر ، فيكتشفون أنّهم كانوا يعبدون من دون الله إلها من التمر اللّين ... يُؤكل ولا يُطْعِم ... يُصنَع ولا يخْلِق ... 
إنّ هؤلاء مثلهم مثل الرجل البدوي الذي صنع إلهه من الحجر ولمّا احتاج إلى الحجر كسره ، أو انصرف عن عبادته ...  
هؤلاء شبيهون بمن عبد العجل بعد أنْ رأى ذبح البقرة ؛ لأنّهم يتّخذون من دون الله بشرا مثلهم ... يمرضون مثلهم ويصيبهم الفقر والوهن والجوع والحاجة والموت ... وهم يرون كل ذلك ثم يرهبونهم ويخشونهم كخشية الله أو أشد خشية ، فهم شبيهون بمنْ رأوا البقرة تُذبحُ ثمّ اتّخذوا العجل إلهاً ... ؟! 


                              بقلم :د. كاميليا عبد الفتاح    

تعليقات