هل كان لابدّ لي من ... ملامسة السّحاب ... ؟!


هل كانَ لا بد لي من ملامسةِ السحاب ؟!

* أقلعتْ بنا  الطائرةُ في وقتٍ لا يكونُ في السماء كما هو في الأرض ..وقتٍ ليس كالوقتِ  : بعد العصر وقبل المغرب ؛ حيثُ يمكنُ الاطّلاعُ على كواليس اللحظات السرّية التي تلملمُ فيها الشمسُ حقيبتَها وتمسحُ دموعها وهي تودّعُ بيتًا لترتحلَ إلى آخر في انصياعٍ شجيٍ . أمكنني أنْ أرى وجهها يحتقنُ  لوعةً وشجىً ...!
·       * كان قائد الطّائرة - فيما يبدو - فنّانا  : رسّاما ،  نحّاتا  ، شاعرا ، أو كان مُفعمًا بحلمِ  تقليد الطيور - حلم البشرية بالأجنحةِ المحال – إذ  لم يكن يحلّقُ بنا بطريقةٍ تقليدية - أو هذا على الأقل ما شعرتُ به لمدة زمنية تزيد على نصفِ الساعة – بل كان يندسُّ بنا  في قلب السحاب  حتى يغمرنا  ببياضِهِ  ؛ إلى حدّ  أني استشعرتُ مذاقَه  في حلقي ، وبدوتُ – وكأني -  أتنفس هذا القطن الحنون  البديع الذي كان يتقافزُ – أمام أعيننا -  ويتبعثر - كأطفال أشقياء أسرعت  بالفرار حينَ رآها ذووها تلهو في المطر وتتواثبُ   ... ! كان الغيمُ يقتحمنا في الوقتِ الذي ظنّنا فيه أنّنا نقتحمُ الغيمَ ...! * كانَ الرُّبَّانُ يخترقُ بنا الغيمَ ، ثم يخرج منه ، كان يحلقُ فيه – فنكونُ جزءًا منه  -  ثم يحلّقُ فوقه ؛ فأرى تكوراتِه  - تركضُ تحتَ الطائرة   - بيضاءَ  وثيرةً ، مضيئةً – بفعلِ انعكاس الشمسِ عليها – فاتنة بجمالٍ عجيبٍ – لا تعرفه الأرضُ – جمالٍ قادمٍ من عوالم سحرية عجائبية تختزنُ أسرارًا  تومئُ وتومضُ وتغيبُ   . أمّا حينَ يحلّقُ تحتَ الغيم فأنا أحملُ هذا الغيمَ سقفًا مضيئًا بسَّاما .
·      * حلّقنا – مع رُّبّانِ الطائرة  – طيورا ، نرى السحابَ – حولنا – طيورا ؛ ومن ثمّ أسندتُ رأسي على نافذة الطائرة ، واستسلمتُ لهذه الفتنة الغرائبية التي هزّتْ روحي هزّا عنيفًا ، طردَ  منها يعضَ سُكَّانها القُدامى ،  ورحبَ  بضيوفٍ بيضٍ - جددٍ - من المشاعر والرؤى .
·       لكنني وفي إحدى اختراقات الطائرة - لقلب السحاب -  أحسستُ برهبة شديدة ...رهبةٍ لم أذقها على سطح الأرضِ من قبل .. رهبةِ من أبصر معنى الموتِ  ، ودلف إلى بوابتَه ، وامتلكَ خبرةً فيه  ...! كانت رهبتي صادقة ، ولم تكن شعورا برهابِ المرتفعات ؛ فأنا أنتشي بركوب الطائرات وتحليقها في القمم الصاخبة ، في الوقتِ الذي أعاني فيه من رُهاب الأدوار العليا من البناياتِ ...!  فهل نبعت رهبتي  من فكرة الصعودِ إلى السماء ، والعلاقة المنغرسة -في تصوراتنا الطفولية  - بين  هذا الصعود والموتِ ؟! الأكثرُ إدهاشا - لي -أنّ هذه الرهبة امتزجت بانتشائي  من التشكيلات اللونية للسحب ، وإكباري للعظمة الإلهية المبدعة لها الجمال  ...! كانت مشاعري حزمة من الأضداد المشتعلة المتوفزة ...!
·      * وهنا تساءلتُ : ما الذي أطلقَ عنفوانَ هذه المشاعر العارمة في روحي ؟ ولماذا لم أذق هذا المزجَ العجيب من المشاعر- مضطّرما بهذه القوة -  من قبل   ؟ ! هل كان للتحليق في قلب السماء وتنفّس تكورات السحب  سببا لانطلاق هذا الزحام من مشاعري ورؤاي ؟ هل كنت أعاني من الاحتباس الروحي  قبل  هذه اللحظة ؟ ! هل كان  للاحتجازِ داخل الجدران الإسمنتية – والحرمان من التحديقِ - والتحليق – في أضلاع الجبالِ وأكتاف السحبِ دورٌ في احتباس روحي ؟ ! نعم إنّ هذا الاحتجازَ يختلسُ الشغفَ ويُكممُ شهقة  الانتشاء ، ويسرقُ من الروحِ أنصبتها من الدهشةِ وبكارة التلقّي لفخامة الإبداع الإلهي.   
·      * يعلم اللهُ  حاجتنا الملحّة الدائمة إلى اليقين بوجوده وإلى أدلّة  مبهرةٍ نراه فيها ، فرزقنا معجزاتٍ غير مقيدة بزمانٍ أو مكانٍ أو نبيٍ ، معجزات لا تنقطعُ أزمنتُها ولا يتوقفُ عطاؤها المبهرُ ، معجزاتٍ تفوقُ – في إبهارها – عصا موسى التي انقلبت حيّةً تسعى ، ونارَ إبراهيم التي تنازلتْ - عن نارها -  فصارت بردًا وسلامًا ، وريحَ سليمان وهدهدَهُ الحصيف البليغ - وجنده من الجنّ القوي الأمين - معجزاتٍ لأوّلنا وآخرنا – بما يفوقُ مائدة عيسى – هذه المعجزاتُ  هي صنيعُه المدهش المبدعُ في أرجاء السماوات والأرض ، هذا الإبداع الذي تضمَّن  داخله الإشارة إلى قدرة الله على كل معجزة – و كلّ شئٍ – ولذلك أمرنا سبحانه بتأمل السماء : كيف رُفعت ، والأرضِ : كيفَ بُسطت ، والجبالِ : كيفَ نُصبت ، أمرنا أن نبصر أنفسنا ؛  حيثُ نحنُ خلقٌ فيه من الجبال شئٌ ، ومن الأرض والسماء والإبل – وسائر المخلوقات  – وحيثُ أنّ الكونَ فينا - وفي الكونِ نحنُ - وتلك آيتُه الكبرى التي لم ترتهن بعصر أو بنبيٍ  ، تلك هي آيته الكبرى التي تحجبُها عنّا   بناياتُ الشهوة  وسطوة الامتلاك - والجدرانُ الإسمنتيّةُ –  وأوهامُ الخلودِ ، الخلود الذي نرجوهُ للروحِ ، ونتوسلُ للوصول إليه بسُبلٍ تتعارضُ مع طبيعة هذه الروح . !
·       * نحنُ نقبضُ على تلابيب الشغفِ وحرية الروح – وخلودها – نطالعُ جوهر الوجودِ حين ننصاعُ لأمره – تعالى – بأن نتأمّلَ تفاصيل قدرته وعظمة اقتداره على الخلق ..نحلقُ ساعتئذ ونتحررُ من وجع انحباس الروح ، من عتمة الإسمنت ، من إرهاق طبيعتنا الآنية المتناهية .. . حين نلتحمُ باللامتناهي نحلقُ ونمتدُ ونتجذّرُ ونتسامى على التناهي .
·         * هل كان لا بد لي من ملامسة السحابِ لألامس هذه المنطقة غير المأهولة  من الوجود ، ومن روحي  ؟! وأي سحابٍ لامستُ إذن ؟ أي سحابٍ وصلتُ إليه بهذه الرحلة الجوية  ؟ أهو هذه التكوينات البيضاءُ الوثيرةُ في السماء ، أم هذه التكويناتُ الوثيرةُ المضيئةُ في روحي  ؟ وهل كنتُ بحاجةٍ إلى  السفر بالطائرةِ لأصلَ إليَّ ؟ !! 


 *                                                    بقلم د. كاميليا عبد الفتاح

الأستاذ المساعد في تخصص الأدب والنقد
جامعة الباحة ( سابقا )



تعليقات