زينةُ الحياة الدنيا : مُنبثقُ البهاء ... وبوابةُ الفناااااااااااااء



·       ·        الزينةُ قوامُ حياتنا الإنسانية ؛ هي متاعُ الغرور الكاذبُ الجاذبُ إلى الحياة، والدافعُ إلى تحمُّل مراراتها ، هي مجموعُ النِّعم المُعطاة لنا  منْ قِبلِ اللهِ – سبحانه وتعالى – في أنفسنا وفيما سُخِّر لنا من الكون، ويُسِّر من الرزق وألوانِ الرغدِ... ، الزينةُ هي المُستَثِيرُ لغرائزنا ، بل هي ركيزة كثيرٍ منْ هذه الغرائز، ومنْ ثمَّ تبدو الزينةُ وقد توسَّطتْ منطقتين في حياتنا الإنسانية :
الأولى : إشباعُ الغرائز . 
الثانية : جهادُ الغرائز ، أو منطقة المكابح ( كبح الغرائز ) 

*** وتبدو الحياة الإنسانية رحلةَ سعيٍ بين المنطقتين وصولاً إلى مصير يحدده الخالق – سبحانه- وفق الجهة التي اختارها الإنسان في سعيه سواء كان صوب الإشباع ، أو كان صوب الجهاد، ومبارزة الإشباع بالاستعلاء . 


**تُشكّل الزينةُ إذنْ الإشكاليةً الكبرى في حياتنا الإنسانية ، بل 


إنّها  الإشكاليةُ الأُم في مسيرة الوجود الإنساني والهيكل الذي


 انبنتْ عليه الوضعيَّة الدراميّة لهذا الوجود ؛ هي النعمةُ المُهداة 


، وهي مضمار جهاد النفسِ الأمَّارة بالسوءِ ، هي مكمنُ الابتلاء 


، ومزلقُ الانحدار إلى الخضوع للغرائزِ ، هي الطِّلاء الذي يسترُ 


حقيقة الحياة وقبحها ،وهي الوعدُ الزائفُ الخلابُ للإنسانِ بكلِّ ما يشتهي  في الحياة ، وكل ما يدفعه إلى الرجاء والتأميل فيها ، وانتظار الغد الواعد الذي قد لا يأتي ، لكنه يؤنسنا  بوميضه في أحلامنا ومنامنا ويقظتنا ،  ويدفعنا - ونحن في قمة الألم واليأس –إلى أنْ نتوكأ على مكابداتنا ومراراتنا أملا في قادمٍ بهيجٍ ، وثمرٍ يانعٍ ، وغيثٍ يلوحُ...  



    ** الزينة في الطرح القرآني-  المُبهر المُفحم - هي كلُ هذه الدلالات المتضادة المتضافرة التي يسَّرَ اللهُ لنا – ولغيرنا - تأملَّها – وهي كلُّ الدلالاتُ الأعمق التي لا يعلمها إلا هو والتي يقدِّرُ بعلمه زمنَ تيسيرها لعباده ... 
     **  تتخذُ الزينةُ – غالباً - دلالة َ النعمة والعطاء  حين تُطرح في الكتاب ِ الكريم في صيغة الفعل – أو المصدر – منسوبةً إلى الخالق سبحانه ،  دالَّةً على هباته لخلقه ؛ فهي  مشهدٌ من مشاهد إنعام الله على الخلق ، ومظهرٌ للجمال والحياة ،كما في قوله تعالى  :
" ولقد زيَّنَّا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رُجُوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذابَ السعير  " سورة الملك -الآية 5 .
 وكذلك قولهُ تعالى : " أفَلَمْ ينظروا إلى السماءِ فوقهمْ كيفَ بنيناها  وزيَّنَّاها "  سورة ق -الآية 6
هكذا دلَّتْ الزينةُ على الإنعام حين نُسِبَ الفعلُ المُشتَقُ منها إلى 
ضمير المتكلم الدالّ على الذات الإلهية في " زيَّنَّا " ، وهي تتخذُ 
الدلالة ذاتها حين تُضافُ إلى لفظ الجلالة كما في قوله تعالى :
" قُلْ منْ حرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعباده والطيَّباتِ من الرزقِ " سورة الأعراف -الآية 32


    **و يُكلِّف اللهُ المسلمين بالزينة عند الصلاة ؛ لأنها تُظهرهم ، وتظهر عبادتهم في هيئة بهية بهيجةٍ قوية ، تُحبِّبُ في العقيدة ، وتستوجبُ ثقة الآخرين فيها ورهبتهم منها يقول تعالى :
 " يا بني آدمَ خذوا زينَتكُم عند كلِّ مسجدٍ "
   سورة الأعراف – الآية 31

·   **   وفي موضعٍ قرآنيٍ آخر يبرزُ اللهُ إحدى نعمه على عباده وهي أنْه زيَّنَ لهم الإيمان ، يقولُ تعالى :
" ولكنَّ اللهَ حبَّبَ إليكم الإيمانَ وزيَّنهُ في قلوبكم "
سورة الحجرات – الآية 7  وفي هذا الموضعِ تبدو دلالة إيجابية أخرى للزينة ، فتزيينُ الإيمان في قلوب المؤمنين يعني دعم هذه القلوب ، وحفظها منْ استلاب الحياة الدنيا.
     
  **إنَّ دلالاتُ الزينة في الطرح القرآني تتغيَّرُ حين يتَّعلّقُ السِّياقُ بالحياة الدنيا وفتنتها ؛ وحين تُنسبُ الزينة إلى الحياة الدّنيا ؛ فالزينةُ هي قوامُ الحياة الإنسانية ، هي صفةُ الحياة  الغاوية للإنسان ؛ ومنْ ثمَّ تُطرحُ  دلالاتُها- في الآيات القرآنية -  في سياق من الوعد والوعيد ،والتحذير وضرب الأمثال . وتتضافرَ كلُّ هذه الأدوات منْ أجل كشف حقيقة زينة الدنيا ، وهشاشتها ، والهدف الذي خُلِقَتْ لأجله .  منْ ذلك قولُه تعالى :
   " وما أوتِيتُم منْ شئٍ فمتاعُ الحياةِ الدنيا وزينتُها " سورة القصص – الآية 60  ، وقوله تعالى : " زُيِّنَ للناسِ حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقناطيرِ المقنطرةِ من الذهبِ والفضةِ " سورة آل عمران – الآية 14 ، 
   وقوله تعالى :
" اعلموا أنَّما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرٌ بينكم "سورة الحديد – الآية 20
   ** ورغم أنَّ الزينة - في حدّ ذاتها - قشرة خارجية هشَّة للحياة الدنيا  ، وليست حقيقة ثابتة فيها ، أو جوهراً – رغم هذا - فإنَّ هذه القشرة استطاعتْ بضعفها هذا أنْ تجذبَ عيون المتعلقين بالحياة ، الغارقين فيها ، الذين لا يرون مستقراً لهم سواها ؛ ومنْ ثمَّ فهم مستميتون إلى الثمالة في تجاهل حقيقة هذا المستقر العطن ، مستميتون إلى حدِّ الجنون في محاولات إيجاد أسبابٍ تبرِّرُ تعلقهم به ، وتؤكد خلود الحياة واستحقاقها للتوفر عليها ، وتجاهل ما وراءها من حياة أخرى  ؛ ولذلك يشيعُ في الطرح  القرآني الكريم الرَّبط بين التعلُّق بزينة الدنيا ، والكفر ، كما في  قوله تعالى :
  " زُيِّنَ للذين كفروا الحياةُ الدنيا " سورة البقرة – الآية 212



**إنَّ هذا الطرح القرآني المثير للفكر يوضح لنا أنَّ غواية الحياة  ليست  كامنة في الحياة ذاتها ، بل كامنة في كيفية  النَّظر إلى هذه الحياة :هل يصحُّ  النظرُ إليها  بالقلب المشغوف بها ، أم بالعقل اليقظ المتفحِّص لها ؟!  ووفقا لطبيعة النظرة  تتحدَّدُ كيفية الحكم على الحياة ، وتقدير قيمتها .
 **زينةُ الحياة الدّنيا  ليست حقيقة الحياة الدّنيا ، وليست طبيعتها الحتميَّة التي تبدو لكلّ إنسانٍ  ؛ بلْ هي غوايةٌ  لا تلاحق إلاَّ منْ يستدعيها ،  وفتنةٌ ... لا تبارز إلاَّ  منْ يوقظها ، وضعفٌ  لا يعلقُ ولا يصيبُ  إلا الضعفاء منَّا  فقط ، ويسطِّر أسباب شقائهم ، وتعاستهم ... 
    ** تزدادُ هذه الحقائقُ  وضوحا عند استعراض النماذج الإنسانية التي وصفها الطَّرح القرآني بأنَّها عالقةٌ  في الزينة ،هاويةٌ  في أشراكها ...
 ### منْ هذه النماذج " قارون " الذي خرج على قومه في مهرجان زينته... يقولُ تعالى : 
" فخرج على قومه في زينته " سورة القصص – الآية 79 فانقسم قومُه  قبالة زخرفه قسمين :
    - قسم منخدع بهذا البهرج يتمنى نظيره ...
، - قسم ثابت الإيمان،  أدرك بإيمانه أبعاد الفتنة والابتلاء في نموذج " قارون "  ...  

###  كذلك كان حال فرعون الذي أُوتِي من الزينة وفتنة الحياة ما لم يُطِقْه باحتماله الضعيف ؛ فكان تجبُّره وبلاؤه . يقول المولى في سورة " يونس " :
" وقال موسى ربَّنا إنَّك آتيتَ فرعونَ وملأَه زينةً " الآية 88
       
    ***إنَّ فتنة الحياة وزخرفها مدخلُ الشيطان إلى الإنسان ، وبوابة وسوسته إليه ، ومآلُ الإنسان يتوقفُ على  مدى استجابته لهذه الوسوسة ، ومدى إنصاته  لفحيحِ الشيطانِ ...  فإذا اجتمعت زينةُ الدنيا  وإغواء الشيطان  - أو لنقل إذا زيَّن الشيطانُ الحياة الدنيا ، وصدَّقَ الإنسانُ هذا التَّزيين كان هلاكُه ... هكذا  وصف ربُّ العزة مآل فرعون ، يقول :
" وكذلك زُيِّنَ لفرعون سوءُ عمله وصدَّ عن السبيل "
    سورة غافر – الآية 37  
 ###  كما وصفُ - سبحانه -  حال الأمم البائدة الذين لم يَخْلُفُوا ممَّا عبدوا من زينة الحياة شيئاً ، بل صاروا ومتاعَ غرورهم هباءً منثوراً ومحض أحاديث – يصف المولى حالهم – في قوله  :
" وعادا و ثموداً وقد تبيَّنَ لكم منْ مساكنهم وزيَّنَ لهم الشيطانُ أعمالهم " سورة العنكبوت – الآية 38
###   كذلك كان صاحبُ الجنتين - في سورة "الكهف " -  ممَّنْ افتتنوا بما مُنِحوا منْ زينة الحياة الدنيا ، فعلقَ في زينته ، فأسقطته في مهاوي الجحود بأنعم الله عليه  ، وصدَّقَ غرور ما هو فيه ، وأنكر أنْ تبيد هذه الزينة ... يقول تعالى في سورة الكهف :  "ودخل جنَّته وهو ظالمٌ لنفسه قال ما أظنُّ أنْ تبيد هذه أبدا " الآية 35  ... ، ثمَّ وصلَ إلى إنكار البعث ، كما صور  الله تعالى في قوله: " وما أظنُّ الساعةَ قائمةً ولئنْ رُدِدتُ إلى ربي لأجدنَّ خيراً منها مُنقَلبا " الكهف - الآية 36  
... وكانت عاقبة افتتان صاحبُ الجنّتين  بالزينة العابرة أنْ كفر ، - كفر-  بالله الذي أنعم عليه بأنعمٍ  اتخذها جُسوراً  للكفر . يقولُ تعالى ، وهو يسوقُ وصف هذا المآل على لسان الرجل المؤمن في هذه السورة  : " قال له صاحبُه وهو يحاورهُ أكفرتَ بالذي خلقَك منْ ترابٍ ثم منْ نطفةٍ ثمَّ سواكَ رجلا " الآية 37

### وعند تأمِّل أجزاءً من قصة " بني إسرائيل " في الطرح القرآني نلاحظ أنَّ الزينة كانت مدخلهم إلى الكفر بعد أنْ أخذ موسى ميثاقهم ، وذهب إلى ميعاد ربه عند " طور سيناء "، لقد أخذوا ما حملوه  عند فرارهم من مصر منْ ذهب أهلها وحُليِّهم ، وقذفوه في النار ، وشكَّلوه في هيئة " العجل " وأرادوا أن يكون لهم جسدا لما يعبدون مثلما أضلَّهم " السامريُّ"  " ، وهكذا كان الذهبُ  – مُجتمعا مع ما في نفوسهم من الشرك والنفاق والفساد – مدخلهم إلى عبادة غير الله .  يقول تعالى على لسان بني إسرائيل واصفا حالهم هذا : " ولكنَّا حُمِّلنا أوزاراً منْ زينةِ القومِ فقذفناها وكذلك فعل السَّامري "سورة طه – الآية 87
 ولننتبه هنا  إلى الاتساق والانسجام  في الدلالة  بين أنْ يكون الذَّهب مَدخل بني إسرائيل إلى صنع العجل - ومنْ ثمَّ عبادته من دون الله - وبين ما ذكر سبحانه منْ أنَّ الذهب مما زُيِّن للناس ، وذلك في قوله تعالى " زُيِّن للناس حبُّ الشهوات من النساء والبنين والقتاطير المقنطرة من الذهب والفضة"
 سورة آل عمران – الآية 14
·        
ا   *** زينة الحياة الدنيا زينةٌ لمن يضعف أمامها ، الزينة فتنة ، والفتنة ابتلاء ، والابتلاءُ يتحوّلُ إلى  بلاءً عند الفشل أمام الغواية ...  وقد أوضح الطرح القرآني هذه الدلالة في مواضع عدة ، وعالجها بصورٍ شتَّى ، فقد جسَّد سبحانه لعباده كيفية إغواء الشيطان لهم ، وأبرز لهم المَزلق الناعم الذي ينحدرون إليه بوسوسته في آذانهم . يسوق  تعالى على لسان الشيطان قوله :
" ربِّ بما أغويتني لأُزينَّن لهم في الأرض "  
سورة الحجر – الآية 39
 هكذا تقرر الآية الكريمة  أنَّ غواية الشيطان وراء  زينة كلِّ ما على الأرض من متاع الغرور، وأنَّ  هذه الزينة هي مكمن الصراع بين الإنسان والشيطان .

**  وبذا يتضح لنا أسرار صمود الصالحين أمام الفتنة الغاوية، وأسرار ثبات المؤمنين حيالها ؛ إذ أنَّ الإيمانُ الحقُّ يُنيرُ البصيرة ؛ فتبدو الأشياء لنا  كما هي في حقيقتها دون طلاء ، تبدو عارية من غواية الشيطان وتزيينه ؛ فإذا هي أهون ما تكون ، وأضعف ما تكون ، وكأنَّ الإيمان هو المضطلع بهذا الجهاد وحده ، فحيث يكون الإيمانُ تتوارى الغواية ، وحيث يتوارى الإيمان تتعملق الغواية ، وتشرئبُ الدنيا بزينتها . يقول تعالى - سورة الكهف  الآية 46 -  مُحذراً عباده :" المالُ والبنون زينةُ الحياة الدنيا والباقياتُ الصالحاتُ خيرٌ عند ربِّك "

*** كذلك حذر سبحانه رسوله الكريم – صلى الله عليه وسلم – منْ الاهتمام  بوجهاء القوم الذين ألحَّ في دعوتهم  إلى الإسلام ظنّاً منه أنهم يزيدون الإسلام قوة بثرائهم ومكانتهم ، فقايضوا الرسول ، وساوموه على إيمانهم  بأنْ اشترطوا عليه أن يطرد المؤمنين الضعاف الفقراء أنفة أنْ يجمعهم مجلس واحد ، وأنْ تتساوى الهامات ، فأمر سبحانه رسولَه ألاَّ تفارق عيناه هؤلاء الفقراء  ، وألا يعدو اهتمامه هؤلاء  المستضعفين ؛ ففي مثلهم الخير كله للدين ، وألاَّ ينخدع  بهؤلاء السادة ، فليس فيهم للإسلام قوة . يقول تعالى – في سورة الكهف –
" ولا تعدُ عيناك عنهمْ تريدُ زينة الحياة الدنيا ولا تُطِعْ منْ أغفلنا قلبه عنْ ذكرنا واتَّبعَ هواه وكانَ أمرهُ فُرُطا "  الآية 28


 
**إنَّ الخطاب القرآني يصوِّرُ المُترفين أولي النعمة أقربَ إلى الكفر   

والطغيان ، أقرب إلى الضعف أمام غواية الحياة وأشْراك إبليس 


، همُ الأدنى إلى الجحود بفضل الله  ، قد شملهم الله بنعمه فأنستهم 


النعمةُ خالق النعمة ، وألهتهم عنْ ذكره ، ثمَّ تقادم بهم الجحود 

والاستغناء ، فعميت قلوبهم ، وصدقوا ما وسوس به الشيطانُ 

 إليهم منْ أنهم أرباب نعمهم ، وأصحاب ما هم فيه من خير ،وأنهم 

    جديرون به  دون غيرهم   ، وهكذا  كانت الزينةُ مزلقهم إلى الكفر . يقول تعالى : " ذرني والمُكذِّبين أولي النعمة ومهِّلهم قليلا " سورة المزّمل – الآية 11    

** يمكرَ الله - سبحانه -  بهؤلاء المكذبين ، بأن يجعل عقابهم نزع ما كانوا  ما كانوا فيه من ترفٍ ، وسيادة ، وكبر ، يمكرُ  اللهُ بهم فيُريهم المذلة بديلا لما كانوا فيه من العلو في الدنيا ، ويريهم العذاب بديلا للنعمة ، والمشقَّة بديلا  للرغد ، يقولُ تعالى  في سورة المزمل :" إنَّ لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصَّة وعذابا أليما " الآية 12
إنَّ المترفين أقرب إلى الفسق والكفر ، ومن ثمَّ جعل المولى فسادهم إيذانا بأخذه الأرض بالعقاب.  يقول تعالى :
وإذا أردنا أنْ نُهلِكَ قريةً أمَرْنا مُتْرَفِيها ففسقوا فيها فَحَقَّ عليها القولُ فدمَّرنَاها تدمِيرا " سورة الإسراء – الآية 16
   *** وعندما تبلغُ الأرضُ قمة أبهتها ، وزينتها ، وتبلغُ فتنتها مصافا يدورُ بعقل أبنائها ، فينكرون فناءها ،  تُقبضُ الأرضُ   ، ويؤخذ أهلها منْ قِبل الخالق العظيم ، وكأنَّ قبض الأرض ومنْ عليها عند  بلوغها هذه الدرجة من الفتنة رسالةٌ إلهية تؤكدُ اقتدار المولى العظيم وتحكُّمه فيما خلق مهما بلغ هذا الخلقُ منْ القوة ، كما أنَّ قبضَ الأرض عند زينتها تأكيدُ هشاشة هذه الزينة ، وعدم استعصائها على الفناء ، ولطمةٌ قوية من الله – وهو خير الماكرين – للغافلين من عباده عنه ، الساهين عنْ وجوده بما أوجد لهم منْ فنون متاع الغرور عونا لهم على دنياهم ، لا إغفالا لهم عن أخراهم... 
     يقولُ تعالى :
" إنّما مَثَلُ الحياةِ الدنيا كَماءٍ أنْزَلناهُ من السّماءِ فاخْتلطَ بهِ نباتُ الأرضِ ممَّا يأكلُ الناسُ والأنعامُ حتّى إذا أخَذتِ الأرضُ زُخْرُفَها 
وازَّينتْ وظنَّ أهلُها أنّهم قادرونَ عليها أتاهُم أمْرُنا ليلاً أو نهاراً فجعلناهَا حصِيداً كَأنْ لمْ تَغْنَ بالأمسِ كذلك نُفصِّلُ الآياتِ لقومٍ يتفكَّرون " سورة يونس – الآية 24
    *** الزينةُ مكمن ابتلاءٍ قدَّرهُ اللهُ تعالى على خلقه ، ومكمن تمحيصٍ أعمالهم ومآلهم ، وبانتهاء دور هذه الزينة  تنتهي هي أيضا  ، وتفنى - كما يفنى كلُ شئٍ  - وفقَ القانون الإلهي الحكيم ،... ولنتأمَّل هذا القانون في هاتين الآيتين المبهرتين - في سورة الكهف – واللتين  لا يُفضي بي  تأملهما إلاّ إلى مزيدٍ من التأمُّل ... ، ومزيدٍ من الوجلِ  من وجه الله ، ومزيدٍ من الرّهبة منه ... إن في هاتين الآيتين الكريمتين بيانٌ للحقّ يسوقه الحقُّ سبحانه وتعالى حيث  يقول  :
" إنَّا جعلنا ما على الأرضِ زينةً لها لنبلوهم أيهمُ أحسنُ عملا  وإنا لجاعلونَ ما عليها صعيداً جُرُزا "24) سورة الكهف – الآيتان 7 ، 8    
*** تلخص هاتان الآيتان غاية الوجود ، تبرزان المسار العدل الذي ارتضاه المولى لخلقه ، والميزان الحقّ للوجود الإنساني ،إنها الحقائق الباهرة الناصعة المتصدّية للعيان ،ورغم أنّها ناصعة مُبهرة للأعين  فإنّ بعض هذه الأعين لا تراها ...!  ، بعض العقول تمرّث عليها  ، ولا تتلمّسها يُمرُّ عليها ـ  تقع في أيدي بعض الناس  ولا يُحسُّون بها في أيديهم ، هذه الحقائقُ تتصدَّى لنا بعناد الأقوياء لكنها لا تلقى منّا – إلاّ من رحم الله - إلا التجاهل والتغافل المنتظمين الدائبين... 

***الحقيقةُ الأولى التي تطرحها هاتان الآيتان :أنَّ كل ما على الأرض من زينة وبهاءٍ إنما هو محض زينة ، والزينة في حدِّ ذاتها كمفردة لغوية تدلُّ على عارضٍ ، وعابرٍ خارجيٍ يلحق بغيره ، فهي طلاءٌ خارجي ، وليستْ أصلا في الوجود ،...  وكأنَّ المعنى المضمر المُخبَّاُ أنَّ القبح هو حقيقة الحياة المتواري خلف هذه الزينة ، وبذلك تكونُ رحلة الحياة رحلة جهادٍ قبالة هذا الطلاء ، ورحلة جهادٍ لتحمل هذا القبح ؛ ويتكشفُ عن هذا كله حقيقة أخرى هي أنَّ القبح والطلاء لم يخلقا لذاتهما ، وليسا غاية في ذاتهما ، لأنَّ الحياة ما خُلقتْ إلا لغاية واحدة هي عبادة الله ، ومنْ ثم لا يجوز الانشغالُ بالزينة ، ولا يجوز الشكوى من القبح . 
*** إنَّ رسالة الأنبياء ، - ومحور الكتب السماوية - هي  التذكير بهذه الحقيقة التي تبدو عند صفاء النفس ، وصدق العبادة مُسَلّمة بدهية  لا تحتاج إلى جهد للكشف عنها ، ولكنّ مواجهة غواية الفتنة بكلِّ هذه الكتل المكونة من الرسالات السماوية ، ،وما انغرس في الفطرة من مواثيق الإيمان بالله ، وما أوجد الله في الحياة من عبرٍ وأمثالٍ تُعين على التذكر ، فضلا عن تلاحم الموت والحياة ، ومعاينة الإنسان موت غيره ، ومعاينته العبرة في الآخرين – كل هذا إنما يدلُّ على مدى انغراس الزينة في تربة النفس ، ومدى تمكنها من نفس الإنسان .
*** الحقيقة الثانية التي تبرزها الآيتان الكريمتان : الغاية من الوجود الإنساني ، وقد لُخِّصتْ في قوله تعالى " لنبلوهم أيُّهم أحسن عملا "  
أمَّا  في قوله تعالى " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدً جرزا " فيتضح مآل هذه الزينة ، فالصعيدُ الجُرُز هي الأرضُ البلقع التي لا شجر فيها ولا ماء ، ولا نبات ، هي الجدبُ والقحط  بعينهما ، وهكذا يكون تحول الحياة  من حالٍ إلى نقيضه ، وضده ، من الزينة إلى الجدب  والقحط  ، وفي الحالين يبدو وجه الله مهيمنا دالا على اقتداره وعلى قبضه الوجود بيمينه ، وإدارته كيفما شاء . 

*** تبدو القدرة الإلهية واضحة للعيان دون حاجة إلى الاستدلال عليها - بما تحتويه الآيتان من نسقٍ فنيٍ مبهر-  ، ، لكن هذه القدرة تعظم في القلب إذا ما تأملنا التناظر والانسجام الفني المعجز في هاتين الآيتين ، وذلك على النحو التالي :
- ترتكز الآيتان السابقتان على ضمير المتكلم في صيغة الجمع الذي أفاد التفخيم ، ودل على إعظام ذات الله وأظهر اقتداره بما يلقي في النفس رهبة ومهابة
- ارتكزت الآيتان كذلك على أداة التوكيد " إنَّ" التي أبرزت اليقين في قدرة الله على الإحياء ، وأبرزت اليقين  في قدرته  على الإماتة والإفناء . 
- ارتكزت الآيتان على الفعل " جعل " ، مع اختلاف هام ؛ إذ بينما جاء الفعل بصيغة الماضي في الآية الأولى " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها... " الآية ، جاء بصيغة اسم الفاعل في الآية الثانية " وإنَّا لجاعلون ما عليها صعيداً جُرُزا " ، هذا الاختلاف بين الآيتين أكَّد عابرية الزينة ، وإنها خلقت لغاية ، وليست لذاتها ، ومن ثم جاء التعبير عن خلقها بصيغة الماضي ، امَّا الفناء فلأنه حقيقة مكرَّسة ، وليس عابرا ، بل هو مستقر الوجود ، جاء التعبير عنه في صيغة اسم الفاعل  المؤكد بلام التوكيد وأداة التوكيد " إنَّ في الوقت ذاته " وإنا لجاعلون " ممّا  يوحي بالاستمرار والنفاذ والمستقبلية في حدوث الفعل 


-  فارقٌ آخر، وهو فارقٌ كمِّيٌ  يبرز ما بين كتلة الحياة والموت ، هو التعبير عن الزينة وبهاء الوجود  بمفردة واحدة هي " الزينة " – في الآية الأولى – والتعبير عن الفناء والموت بمفردتين هما : الصعيد ، والجُرُز ..
*** يبدو واضحا منْ خلال تأمل وجوه التناظر والاختلاف بين الآيتين أنَّ كتلة الهدم تفوق كتلة البناء في الحياة الدنيا ، وأنَّ الموت أقوى من الحياة...  يبدو الزوالُ جزءً حيا في الوجود ،يبدو وكأنّه خلية حية تعيش في جسد الحياة ، أو هو المرحلة  العليا من مراحل نمو الوجود ، وهذا يتَّسقُ مع تقديم الموت على الحياة في كثير من السياقات القرآنية ، كما في قوله تعالى في سورة الملك :
" الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكمُ أحسنُ عملا "  الآية  رقم 2 ... فقد قَدِّم اللهُ خلقَ الموت في الآية على خلق الحياة تنبيها للإنسان الغافل – أو المتغافل  -عن قوة هذا الموت ،...  وهذه الغفلة أو هذا التغافل مدفوعان بالرغبة العميقة القاسية في زينة الحياة الدنيا ، وهذا ما يشير إليه المولى- العالم بأسرار عباده – في قوله في سورة القيامة " بل يريدُ الإنسان ليفجر أمامه يسألُ أيَّان يومُ القيامة "  الآية رقم 5
*** الموتُ يغلبُ الحياة ويختمها لتوزن الأعمال ، وتمحّص ، والحياة ما هي إلا معرض للابتلاء ، ومختبر يتبيّنُ فيه موقف المخلوقين مما خَلَق لهم ربُّهم سبحانه من زينة وفتنة ؛ ومنْ ثم توصف الحياة الدنيا بأنها متاع الغرور ، وبأنها مستقرٌ إلى حين ، ومتاعٌ إلى حين ... 
*** ولننظر إلى مدى الاتساق المعجز بين كل هذه الدلالات ، وكيف يتَّسق الطرح القرآني وينسجم معجزا مبهرا مفحما كلَّ من يتصدى له – سواء أكان التصدي لهذا الطرح  صادراً عن إيمان وحب وتصديق ورغبة في إبراز بهائه ، أو كان صادراً عن تشكك وتوجس ورغبة في الغمز فيه – فزينة الحياة الدنيا توصفُ  في القرآن بأنها عابرة ، هامشيَّة ، هشة ، ومن ثم فإنَّ جرثومة فنائها كامنة فيها ، خُلقتْ فيها معها ، ومن هنا كانت الزينة مؤقتة ، ومن هنا كان لا بد أنْ تكون الحياة مستقرا إلى حينٍ لأنَّ كل ما عليها زينة لها – في قوله تعالى " ولكم فيها مستقرٌ إلى حين " وبذلك ينفي الأجلُّ المحدَّد للحياة في قوله تعالى " إلى حين " – ينفي – صفة الاستقرار في كلمة " مُستقرٌ "
*** لقد تحدَّى الله سبحانه عباده أنْ يروا في الوجود خللا ، أو نقصاً يشككهم في ربوبيته أو ألوهيته سبحانه ، وذلك في قوله " المُلك " :
"الذي خلقَ سبعَ سماواتٍ طِباقاً ماترى في خلقِ الرحمن من تفاوتٍ  فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرَّتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " الآيتان 3 ، 4

*** و بهذا المقياس ذاته نتأمَّل الطرح القرآني الكريم ، وبهذا القانون الإلهي العظيم نديرُ عقولنا ، وندير قلوبنا وأرواحنا في آيات الله فلا نرى من فطور ، ولا نرى إلا إلها عظيما تسامقتْ عظمتُه ، ودقَّت بلطفها على أرواحنا المبللَّة بالطين ، والمندَّاة بعرق الذنوب ، والمتكلِّسة بغرائز الحياة الدنيا مما حجب عنها كثيرا من الأنوار ،...

 وهاهي ذي أرواحنا تحاول إذا ما جاءها وميضٌ من رحمة الله ، وأشار إليها النور أن اتبعيني ،- ولو للحظة واحدة ثمينة - ، هاهي ذي تدرك في سَبحاتها  وتأملاتها  في اليقين كيف يبلغ هذا النور مدى من الجمال الذي تحيا به  وتُرهقُ في الوقت ذاته من عظمته ، وها هي ذي تحاول أنْ تختزن في جنباتها الواهية التَّعبة عمقَ هذه اللحظة وجلالها ، ونفاستها ، وتدخر كل هذا في العميق المُضئ منها حتى إذا نهشتها الغفلةُ جذبها إليه البريقُ برحمة من الله وحده ؛ إذْ لا فضل لها ؛ لأنه لاحول ولا قوة لها إلا بالله... لا حول ولا قوة إلاّ بالله ... لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ... 

               بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 


تعليقات