زجروا الطَّيرَ ... وهو في أعناقِهم ...!

الغيبُ  هو المجهولٌ المُعمَّى ... هو المُغيّبُ الغائبُ عن الوعي الإنسانيّ والإدراكِ الإنسانيّ ... وهو بهذه الصّفة أحدُ مؤرّقات الإنسانِ وأحدُ أسئلته الكبرى إن لم يكن  هو السؤالَ الأولَ والأكبرَ في الفكرِ الإنساني ... 

***  بذلَ الإنسانُ محاولاتِ كثيرةٍ في سبيلِ فكّ شفرة الغيبِ السريّة أو مجرد مقاربتها وتخمين ما تختزنُه هذه الشفرةُ من إشاراتٍ أو علاماتٍ يستطيعُ من خلالها توقُّع ملامح القادم الغامض ... القادم المهيب ... 

*** وقد نَصبَ المجتمعُ الإنسانيّ وظيفةً كاملةً للبحث عن ملامح الغيبِ هي وظيفةُ " الكاهن " ... ومهمّة الكاهن كما يبدو من المُسمّى هي مُجرّد التّكهّن بأخبار الغيب وملامحه ... أي أنّ وظيفَتُه ظَنِّية مئة في المئة  ... تخمينيّة مئة في المئة ، لكنّه اكتسب بقدرته على الظنّ والتخمين مكانةً كبرى في جميع المجتمعات الإنسانية القديمة ... اكتسب إكباراً  وإعجاباً عظيمين مثيرين للدهشة والتساؤل فعلا ؛ إذ يبدو أنه اكتسب هذه الظلال من الإعجابِ والإكبارِ لمجرّد شجاعته وقدرته على مواجهة الغيبِ المهيب وتصدِّيه لهذا المُغلقِ المستتر وجرأته على مساءلته ودقِّ أبوابه ... 

*** كانَ الرجلُ العربيّ في الجاهليّة يذهبُ إلى الكاهنِ ليزجرَ له الطيرَ - وكان بعضهُم يزجُرها بنفسه - لمعرفةِ الغيبِ ومقاربته ... 
وزجرُ الطيرِ يعني إطلاقَ الطّير في الهواء ثم التّكهن بالغيب وفق جهة طيرانِ الطير ... وكان هذا الطيرُ في غالبِ الأمر هو الغراب ، فكانَ الكاهنُ - أو الرجلُ صاحب السؤال عن الغيب - يُطلٌقُ الغرابَ في الهواء بعد أنْ يُسمّي  في نفسه الأمر الذي يريدُ معرفته أو معرفة مصيره في المستقبلِ ... ثم ينظرُ إلى جهةِ طيرانِ الغرابِ فإذا طارَ جهةَ اليمين تفاءل الرجلُ يقيناً  منه أن الآلهة أوحت للطيرِ بالبُشرى ... وإذا طارَ جهة اليسارٍ تفاءل يقينا بأنّ الآلهة أوحت إلى الطيرِ بنذيرِ الشؤم ... وكذلك كانوا - في الجاهلية - يتشاءمون إذا طار الغراب وراء رأسِ الرجل أو إذا وقع على رأس الرجل صاحب المسألة ، كما كانوا يتشاءمونَ بشدة إذا أخذ الغرابُ ينتفُ ريشَه أثناء عملية الزجر هذه ...! 
وقد أطلقت بعضُ القبائل على الغربان التي تطيرُ يمينا عند زجرهِا مُسمّى " بوارح " ... وأطلقت على الغربانِ التي تطيرُ عند زجرها يسارا مُسمّى سوانح ... كلُّ هذا والطيور لاهيةٌ بريئةٌ من معرفة الغيبِ أو الاتّصالٍ بأيّ قوى خفيّة وأي آلهة مزعومة ... فهي تغدو  خماصاً وتعود بِطاناً وفق القانونِ الإلهي الذي ينتظمُ مسيرتَها في الكون  ولا شأن لها بمسيرة الكون وقضايا الوجود الإنساني!  ... الطّيورُ بريئةٌ معافاةٌ من هذا الشِّرك والحمقِ والضّعفِ والهشاشة الإلحادية المنطلقة من كياناتٍ مذعورة أفقدها الشركُ بالله والجهلِ به كلّ قدرة على الإدراك والتعقّل فلجأت إلى الطيور الأعاجم تستنطقها عن الغيب وتتوسّل بها للآلهة مزعومة مفترضة لايوجدُ دليلٌ واحدٌ يؤكّد وجودَها ولا يوجدُ ما يدعمُها ويقوّيها ويكرّسها سوى الكاهنِ الذي لا بد له من تأكيدِ وجود الآلهة وتكريسها وتعظيمه في الوعي العربي الجاهلي - وكذا في عقلية العصور الوسطى في الغرب - لأنّ استمرار الاعتقاد بوجودِ الآلهة هو الطريقُ الوحيدُ لاستمرار ارتزاقه من الحَمْقَى ... والطريق الوحيد  للحفاظ على مهابته ومكانته المزيفة التي لم تكُن لتكونَ لولا غيابُ الوعي الإنساني وغيبوبة الفطرة الإنسانية ... 

*** ومنْ زجرِ الطَّير وُلِدت مشتقاتٌ كثيرةٌ في اللغة العربية ، منه : التَّطيُّر ، والطَّيرة  بمعنى التّشاؤم والتوقّع السلبي والتّربص القلِق السوداويّ النّابع من إشاراتٍ غيرِ منطقيّة أو من علاماتٍ أو تخميناتٍ هلاوسيّة غيرِ منطقيّة تشبه مسألةَ  الاحتكام ِ  إلى زجر الطّير لمعرفة الغيبِ   ... فالتّطيّر ليس مجرّد التشاؤم بل هو التشاؤم والتّوقع السوداوي غير المرتكز على المنطقِ أو على طبيعة الأمور أو على مقدّمات الأشياء ... 

*** ولقد تعاملَ اصحابُ المجتمعاتِ الإنسانيّة  القديمة  مع الرّسلِ والأنبياء بهذا المنطق  أو - على الأصح - بهذا اللامنطق .. تعاملوا معهم بمنظومة التَّطيّر وزجر الطّير وواجهوا كثيرا من الرسالات السماوية بهذه المنظومة ... 
من المواقفِ التي سجّلها القرآنُ الكريمُ في هذا الصّدد هذا موقفُ أصحابِ القرية مع المُرسلين  في سورة " يس " ... يقولُ تعالى : 

" واضرِبْ  لهم مثلاً  أصحابَ القريةِ إذْ جاءَها المرسلون 13)  إذْ أرسَلنا إليهِم اثنينِ فكذّبوهما فعزّزنا بثالثٍ فقالوا إنَّا إليكُم مرسلُون 14 ) قالوا ما أنتمْ إلا بشرٌ مثلُنا وما أنزلَ الرحمنُ من شئٍ إنْ أنتم إلاَّ تكذبون15 )  قالوا ربُّنا يعلمُ إنّا إليكم لمرسلونَ 16 ) وما علينا إلاَّ البلاغُ المُبينُ17 )  قالوا إنّأ تطيّرنا بكم لئنْ لم تنتهوا لنرجُمنّكُم ولَيمسَّنَّكُم منَّا عذابٌ أليمٌ18 ) قالُوا طائِرُكُم معَكم أئِنْ ذُكِّرتُم  بل أنتم قومٌ مسرفُون 19)  
وبهذا العبثِ واجه قومُ ثمود " صالح "-  عليه السلام - يقول تعالى : 
" قالُوا اطَّيرنا بكَ وبِمن معكَ  قالَ طائرُكُم عند اللهِ بل أنتُم قومٌ تُفتَنُون " سورة النمل  الآية 47 

وكذلك كانَ حالُهم مع " موسى " - عليه السلام - يقولُ تعالى : 
" وإنْ تُصِبهُم سيئةٌ يطّيروا بموسى ومنْ معهُ ... " سورة الأعراف الآية 131 
 لقد أكد المولى - سبحانه - لهؤلاء  أن مصيرهم مخطوطٌ عنده ، وأنّ الغيوب بيده وحده ومن ثم يكونُ طائرهم عند الله أي أن الغيب الذي يبحثون عنه لا يملكه غيرُ الله  سبحانه ... 

*** وهكذا كانَ الطائرُ وكان التّطيرُ أحد الذرائع التي يواجهُ بها السّفهاء رسلَ الله ورسالاته ... كان التّطير أحد المصدَّات الإلحادية التي تواجهُ الإيمان والحقّ والهداية ... 

*** وجّه اللهُ سبحانه خطابه القرآني إلى العقلِ الإنساني ليستردّه من هذا التفكير الغرائبيّ أو هذا الـــ لاتفكير ... فنبّه - سبحانه - إلى أنّ الطير مخلوقاتٌ وأمم مثل الإنس والجنّ لا تملكُ من علم الغيبِ شيئا وليس لها الاطّلاعُ على الملأ الأعلى ... يقول تعالى : 
" ومَامنْ دابةٍ في الأرضِ ولا طائرٍ يطيرُ بجناحيهِ إلاَّ أُممٌ أمثالُكم " سورة الأنعام الآية 38 
كما أقرّ - سبحانه مبدأً إلهيّا جليلَ الشأنِ خطيرا في هذه المسألة ... ولنتعرّف على هذا المبدأ يجب أن نقرأ قوله تعالى : 
" وكلَّ إنسانٍ ألزَمْناهُ طائرَه في عُنُقِهِ ونُخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشورا 13 ) كفى بنفسِك اليومَ عليكَ حسيباً 14)  سورة الإسراء 
أكّدت هذه الآياتُ الكريمة أمورا جدّ خطيرة الشانِ في مسألة الشغف الإنساني بالبحث عن الغيوبِ ... 

الأمرُ الأول : قوله تعالى : وكلَّ إنسانٍ ألزَمْناهُ طائرَه في عُنُقِهِ...  طائرَه في عُنُقِهِ.. طائرَه في عُنُقِهِ... آيةً قرآنية  خطيرةً الشأنِ في تحديد المسارِ الإنساني وفي إثباتِ  مسؤلية الإنسان عن عملِه وأفعاله ... خطيرة الشأن في قضية الغيبِ والبحث الإنسانيّ المحموم عن هذا الغيبِ إذْ تُقرّرُ الآيةُ الكريمةُ أنّ الغيب أو المجهول الخاص بمصيرِ الإنسان ليس خارجه بل معه ... وفيه ... و بِه يتشكّل فالإنسانُ يُحدّدُ مآلَه بما يقترف بإرادته ومن ثمَّ ليس له حاجةٌ إلى زجرِ أي طيرٍ ... 

 المعنى جدُّ خطيرٌ ويصوّر تحوّلا في مفهوم الإنسان لمصيرِه والحدود التي ينبغي له أن يهتم بها من الغيب ... ومفهوم الغيبِ ذاتِه ... 
لقد انتقلَ  الغرابَ الذي كان يزجره الرجلُ العربيُّ من الهواءِ إلى عُنقِ  هذا الرجل -  بموجبِ هذه الآية-  ... بل انتقل فيه وأصبح داخله ... أصبح الرجلُ والطيرَ كياناً واحدا ومن ثمّ يجبُ على من يرغبُ في معرفةِ  نتيجة أفعاله وما قدّمت يداهُ أن يبحثَ داخله ... داخلَ نفسه ... وأن يفتّش عن طائره داخل تكوينه ذاته ...

الأمرُ الثاني :  أكّدت الآياتُ الكريمة  أنّ صحيفة أعمالِ الإنسانِ ونفسه هي طائرُه إذ ربطت الآية بين الطائر والكتاب المنشور والنفس الإنسانية في سياقٍ واحدٍ  ... لنتأمّله : 
" وكلَّ إنسانٍ ألزَمْناهُ طائرَه في عُنُقِهِ ونُخرجُ له يومَ القيامةِ كتاباً يلقاهُ منشورا 13 ) كفى بنفسِك اليومَ عليكَ حسيباً 14)  
إذن : طائرُ الإنسانِ في عُنقه يخرجُ منه - أو يخرجُ هو - كتابٌ منشورٌ وصحيفةُ أعمالٍ يوم القيامة ... هذه الصحيفة ذاتها هي نفسُ الإنسان التي تحاسبُه وتواجهُه بما اكتسب ...  
إذن منْ  أراد أن يزجر الطيرَ فليزجر نفسه وينفض ذاكرته ويطلٌ أعماله  في الفضاء  ... ولينظر إلى أيّ جهةٍ تطير ... ! 
                 
                                   ********
                            بقلم : د . كاميليا عبد الفتاح 



تعليقات