السعادةُ كائنٌ سماوي : " لا تَهِنُوا ولا تَحزَنُوا ... "

السعادةُ إشكالية إنسانية كبرى ... لكنها إشكاليةٌ مثيرةٌ للتأمل الثري العميق في النفس الإنسانية ، ومثيرة للتأمل في موقف الإنسان من الحياة الدنيا  ، وموقفه من الآخرة ... 
السعادةٌ ... ما هي ؟ وكيف تتحقق ؟ وهل هناك إمكانية حقيقية للوصول إليها ؟ وما هي سُبلُ الوصولِ إليها ؟ ... 

* السعادة هي الشعور اللامتناهي بالتحقق واكتمال الغايات والأهداف ... هي الشعور الفائق بالإمكانية والقدرة والاستطاعة  غير المحدودة في كل شئٍ ، وفي كل مجال ... هي تحقق كلِّ حلمٍ وأمنية ... هي اطمئنان الإنسان  إلى امتلاكه دفَّة حياته وقدرته على توجيهها أينما أراد وكيفما يريد ... السعادة هي السلامة التامة والمعافاة  من أي تنغيص وكدر ونقص وحاجة وعوز ... 

*** إذن السعادة معنى مُطلق ... السعادة من المطلقات التي لا تقبل القيود والحدود والنقص و ... 
 ومن هنا نتساءل : كيف يمكن أن تتحقق سعادة الإنسان في الأرض ، أو في معيشته الأرضية في هذه الحياة الدنيا التي جُبلت وخُلقت من النقص والكدر والكبد ابتلاء من الله لعباده وتمحيصا لنفوسهم وأعمالهم وتحديدا لمصائرهم ومآلهم في الآخرة ؟! 

*** كيف يبحث الإنسان عن السعادة في وجوده الأرضي إذا كان هذا الإنسانُ نفسه مخلوقا من كيان تتجاور فيه الروح النورانية مع الجسد  الغريزي الأرضي ،  ومٌبتلى بنفسٍ يتجاورُ  فيها الفجور مع التقوى ، ومٌبتلى بجسد تتجاور فيه العافية مع المرض ، ومُبتلى بعمرٍ تتناهبه تحولات الطفولة الواهنة والصبا الطائش النزق والشباب الجامح والشيخوخة المرهقة ... 
** كيف يتوقع الإنسانُ  السعادة في وجوده الأرضي وهو مدفوعٌ دفعا لا إراديا إلى سد حاجات جسده ومحاربة هذا الجسد - في الوقت نفسه - كي لا يطغى على تطلعات الروح وصفائها وروحانيتها ... وعلى الإنسان أن يسعى - طيلة حياته لتحقيق هذا التوازن الشاق بين جسد طينيٍ  مشبعٍ دون طغيانٍ على الروح  ، وروح مشبعة دون طغيان على الجسد ودون مساسٍ بحقوقه حتى لا يشغلها أو يوهنها ... ! 

*** كيف ينتظر الإنسانُ السعادة على الأرض وهو مكلف  بالسعي - لكسب رزقه وقوته - بأن يحطم الصخور وينحت الجبال ويواجه الأعاصير والسيول والجفاف والرياح والبرد والحر ، وذوات الأظلاف والأنياب و  ...  
*** كيف يرجو السعادة وهو مرتبك مضطرب ما بين حاجته إلى الطعام  والشراب وحاجته الحتمية  إلى التخلص من بقايا  الطعام والشراب ؟ ... حاجته إلى النوم وحاجته إلى اليقظة ... حاجته إلى الفرح - لا السعادة - وحاجته إلى الحزن أيضا ؟ 

*** كيف يتربص الإنسانُ في وجوده الأرضي بالسعادة ويحاول اصطياها وقد مدفوع بقانونٍ إلهي إلى التنافس والتزاحم في الأرض ، بل كيف يتطلب السعادة وهو محاط بالعداوت في أصل وجوده : العداوة بين الإنس والإنس  ، والعداوة بين الإنس والجن ، العداوة بين النفس والجسد ، والعداوة بين نوازع الخير ونوازع الشر ، و...؟ 

*** كيف تتمكّن السعادة من التحقق والتواجد في وجودنا الأرضي الذي لا يتوفر فيه أي شرطٍ من شروط السعادة ، ولا يتضمن المناخ الملائم لتفريخ السعادة واحتضانها ؟! 

*** إذن السعادة كائنٌ غير أرضي ... هي كائن سماوي ... كائنٌ في الجنان  يمنحها اللهُ هدية وإثابة لعباده الصالحين ... ونستطيع التحقق من هذه الحقيقة إذا أعدنا التأمل في صفات الجنة ومناخاتها ووعودها وجمالها ... فجنة الله في الآخرة هي الاكتمال ... لا يسمع فيها المؤمنون لغوا ولا تأثيما ... وقطوفها دانية ... تدور عليهم كؤوس بمذاقات مثالية صافية راقية علوية خالدة ... ويُطافُ عليهم بكيانات جمالية مخلّدة ( غلمان وحورٌ عين ) ... وفي الجنة لا يشتكي المؤمن من الحر أو البرد أو الإعياء أو المشقة والمكابدة ، كما لا يشكو من سأم الراحة وملل الاسترخاء ... لا يجد إلا نفوسا طاهرة صافية فليس ثمة حسد أو حقد أو كراهة أو نزاع حول مال أو بنين أو جاه ومنصب أو امرأة ... 
ليس إلا السلام ... ليس إلا السلام ... والسلام هو المناخ الوحيد الذي تتحقق به  وفيه السعادة  ... نعم السلام والتسليم والسلامة ... هذه هي مناخات الجنة التي تتحقق فيها السعادة بمعناها المطلق اللانهائي والذي لا يوجد في الحياة الدنيا ، ولم يمر على ذائقة البشر ... 
*** السعادة في السلام ... إذن هل يصح في العقل أن ندرك السعادة في وجودنا الأرضي المتخم بالقتل والسلب والنزاع والحروب والظلمات والظلم ... ؟ 
نستطيع في حالة واحدة أن نقترب من مذاق السعادة ونحسو منه  حسو الطائر  بمنقاره الصغير  ، ولا يكون ذلك إلا إذا أدركنا زيف هذه الحياة الدنيا ونجونا من الغوص في أقبيتها المظلمة وسراديبها المخيفة ... نستطيع أن ندنو من مذاق السعادة إذا انتبهنا إلى أن وجودنا الأرضي يجب أن يكون على هيئة من يجلس على الحافة استعدادا للرحيل ، ومن ثم يجب أن يكون الارتباط بالحياة الدنيا بقدر ارتباط الجالس على الحافة بهذه الحافة ... أي أن يكون الارتباط ضعيفا مؤقتا فالجلسة على الحافة قلقة مزعجة لا تستغرق وقتا  ولا نحمل فيها شيئا ثقيلا معمرا إنما هي حقيبة صغيرة بمتاع قليل ... 
هكذا يجب أن يكون وجودنا على الأرض ... ومجرد إدراك هذه الحقيقة يشعرنا بالراحة وينجينا من بعض مذاقات التعاسة ... 

** التعاسة إذن في ارتباطنا العشقي بالحياة الدنيا ... ارتباط غير مودّع وصلة من لا يطيق ذكر الفراق ... 
*** تعاستنا الإنسانية تنبع من جهلنا بأن السعادة كائنٌ سماويٌ لم يخلق للأرض ، ومن ثم فهذا الكيان غيرُ مجهّز للحياة على الأرض ... 
إذن تعاستنا نابعة من مطاردة  فريسة غير موجودة في الأساس ... تعاستنا كامنة في توهمّنا السعادة  وجهلنا بمحاليتها   وخيبة أملنا إذ نرجو غير الموجود وما لايصح رجاؤه في الدنيا ... 
وهكذ تتشابك وتتعقد أسباب غياب السعادة وأسباب توطن التعاسة الإنسانية على الأرض ... 
*** ولا ينجو من هذه الأفخاخ التراجيدية المضحكة المبكية إلا المؤمنون الصالحون الذين أكرمهم اللهُ وأثابهم في الحياة الدنيا والآخرة بكؤوس من السلام والسكينة فأنزل عليهم الملائكة تنزع من صدورهم النزوع إلى السعادة الدنيوية ومعاناة الشقاء الدنيوي أو الانشغال به  ... يقول تعالى : 
" إنَّ الذين قالوا ربُّنا اللهُ ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهم الملائكةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزَنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم تُوعَدون " الآية رقم 30 سورة فُصلت . 

بل إن الخطاب القرآني يكلف المؤمنين ويأمرهم بألاَّ  ينشغلوا بهذه الثنائية المزيفة : ثنائية السعادة والشقاء ... يقول تعالى : 
" ولا تَهِنُوا ولا تحزَنوا وأنتمُ الأعلونَ إنْ كنتُم مؤمنين " الآية 139 سورة آل عمران  
وكأن الآية الكريمة تشير إلى أن معاناة الحزن والانشغال بالسعادة الدنيوية لا تتسق مع مرتبة الإيمان ولا تليق بالمؤمنين كما أنها لا تتسق مع العلو والسمو ، ولا تكون للعالية همتهم ونفوسهم والسامية أرواحهم ... 




                                **************
                      بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح  

تعليقات