في جوف الحوت ... هل منْ مُسَبِّح ...؟!

* جوفٌ الحوتِ ... أو بطن الحوتِ ... ابتلاء كابده " يونسُ " عليه السلام - أو " ذو النّون " - حبسٌ ذو مذاقٍ جديد ، ونوع جديد من المحابسِ والسجون لا تأتي وتُقدّر إلاَّ من إله عظيمٍ حكيم ... سجنٌ يختلف عن السجن الذي ضمَّ " يوسف" عليه السلام ...ويختلفُ عن السجون المعنوية والمادية التي ابتلى اللهُ بها أنبياءَه وأصفياءهُ ، وترك لنا في محابسهم وسجونهم -  ومعجزة تحريرهم من هذه السجون - عبرة ... 

*** كان يونسُ عليه السلام يائساً من اهتداء قومه إلى الإيمانِ ، قانطا من تلبيتهم دعوته وتصديقهم رسالته ... ، فكان بهذه  المرارات  سجين  اليأس والهمّ والحزن ... كان سجين ظلمة معنوية حادّة ؛ فقدّر اللهُ له أن يلتقمه الحوتُ ...  سُجنَ يونسُ - عليه السلام - بما يحمل من الهم والغمّ -  في ظلمة بطنِ الحوتِ الذي يسعى في ظلمة اليمِّ ... ولذلك أشار-  سبحانه- إلى عمومِ  حالِ يونسَ في بطن الحوتِ بكلمة الظلمات ، ليدل على مجموع العتمات المادية والمعنوية التي كان يعاني منها ... 
يقولُ تعالى  - في سورة الأنبياءِ : 
" وذَا النُّونِ إذْ ذهبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أنْ لنْ نقدرَ عليه فنادىَ في الظُّلُماتِ أنْ لا إلهَ إلاَّ أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظَّالمين 87) فاستجبْنَا له ونَجَّيناهُ من الغَمِّ وكذلكَ نُنجي المؤمنين 88) 
ويقولُ تعالى - في سورة الصَّافات - : 
" وإنَّ يونسَ لَمْنَ المُرسَلِين 39) إذْ أَبِقَ إلى الفُلكِ المشحونِ 40) فسَاهَمَ فكانَ من المُدحَضين 41) فالْتَقمَهُ الحوتُ وهو مُليمٌ 42) فلولا أنْ كانَ من المُسبِّحين 43) لّلَبِثَ في بطنِهِ إلى يومِ يُبعَثون 44) فنَبذناهُ في العرَاءِ وهو سقيمٌ 45) وَأَنبتنَا عليهِ شجرةً من يقطينٍ 46) وأرسلناهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدون 47) فآمنوا فَمتَّعناهُم حتى حين 48) ...

** تحملُ هذه الآياتُ الكريمةُ رسائل إلهية جليلة الخطر إلينا ... رسائل عظيمة القيمة والجلالِ ... شديدة الدلالة على حكمة اللهِ ورحمته ووبديع منهجه في تربية عباده ... 
* الرسالة الأولى : ظُلمات اليأس والغم والهمّ كفيلةٌ بإضعافِ الإنسان وإيقاعه في المزيد من الظلمات والابتلاء والكروب ... حين يلتهمُ النفسَ يأسٌ وقنوطٌ ومرارة تكونُ أضعف ما تكون ... وتسلمُ صاحبَها إلى المزيد من مساراتِ الضياع والهلاك والمكابدات ... هكذا كانت بداية رحلةُ " يونسَ " إلى بطنِ الحوت ... لقد أسلمه اليأس والغمُّ إلى بطن الحوت فتعقدت ابتلاءاتُه وتضاعفت سجونُه ومحابسُه وصار حبيسَ دوائر معقدة معتمة ... 
**الرسالةُ الثانية : اللجوءُ إلى الله والاستعانة به تسبيحا وذكرا هو الطريقُ الوحيدُ للخلاص ... هو النجاة الوحيدة ... ومن هنا قدَّم اللهُ - سبحانه - التسبيح على غيره من الأسباب الي قدّر بها الشفاء ليونس ممّا اعتراه من مرض وهزال من بطن الحوت ... 
قدّم التسبيح أولاً ... ثم أشار إلى شجرة اليقطين التي أنبتها على" يونس " ليأخذ منها شفاء جسده ... 
وإن تقديم التسبيح على إنبات الشجرة ليؤكد أن الله تعالى يُوجدُ الأسبابَ ليقنع الإنسان بكيفية حدوث الأشياء ، وليجبرَ الإنسانَ على السعي والفعلِ ... فالأسبابُ في حد ذاتها ليست هي الفاعلىة بل قدرة الله عليها وتطويعه لها ... كما أن هذه الأسباب ليست كافية أو فاعلة دون إيمانٍ وتوجّهٍ عباديٍ ... لذلك كان التسبيحُ في الآيات الكريمة - من سورة الصافات - مقدما على شجرة اليقطين ...  أمَّا  في سورة الأنبياء فقد جعلَ - سبحانه - النجاة نتاج التسبيح وتالية له ... 
"وذَا النُّونِ إذْ ذهبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أنْ لنْ نقدرَ عليه فنادىَ في الظُّلُماتِ أنْ لا إلهَ إلاَّ أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظَّالمين 87) فاستجبْنَا له ونَجَّيناهُ من الغَمِّ وكذلكَ نُنجي المؤمنين 88) ... 
** الرسالةُ الثالثة : 
عظيم رحمة الله تعالى وجليل قدرته أن يقولَ للشئ كُن فيكون ... إن اللهَ سبحانه حين يريدُ بأحد من عباده خيرا ورحمة ورضا يُوجدُ له أسباب العافية والمخرَج من كل همِّ وضيقٍ وظُلمة ... هكذا هي الرسالة الإلهية الجليلة التي يؤديها المولى إلى عباده في قوله في الأيات السابقة من سورة الصَّافات : 
 فنَبذناهُ في العرَاءِ وهو سقيمٌ 45) وَأَنبتنَا عليهِ شجرةً من يقطينٍ 46)
 لابد أن نلتفت إلى دقة التعبير الإلهي : " أنبتنا " الذي يدلُ على خلق شئٍ لم يكن  موجودا حيثُ يوجدُ يونسُ ... خلق شئٍ لأجلِ شفاء يونس - عليه السلام - إنها الرحمة والعظمة والقدرة الإلهية التي تخلق من عدمٍ وتقولُ للشئ كُن فيكون ... 
إنّها الرحمةُ ذاتها التي نراها تُحيطُ بالرسول " محمد" - عليه الصلاةُ والسلام - في محبسه في الغار عند الهجرة ... حيث أمر اللهُ العنكبوتَ أن يغزلَ فغزلَ شبكة مكتملة تؤكد  فراغ  الغار من البشر ومحالية عبور أحد باب هذه الغار وهي قائمة   ... وأمر الحمامة فباضت ورقدت على بيضها ... وكان كلُّ ذلك كفيلا بحماية رسوله ونبيه من أيدي الكفار ... وكان اللهُ قادرا أن يبيدَ هؤلاء الذين يطاردون رسوله ويهددون حياته ودعوته إلى الإسلام ... كان سبحانه قادرا على أن يجعلهم كالعصف المأكول - مثل غيرهم - لكنه أراد أن يدلّ على عظمته وألوهيته وقدرته على حماية أنبياءه وأولياءه بأضعف مخلوقاته وبما لا يصح أن يكون في حدّ ذاته سببا في الخلاص والنجاة ... 
*** شجرةُ اليقطين إذن هي العنكبوت والحمامةُ في هجرة الرسول - صلى اللهُ عليه وسلم - وهي ضربُ إسماعيلُ - عليه السلامُ - بقدميه وهو وليدٌ حتى فجر الماء تحت قدميه وفتح بئر زمزم ... هي الرطبُ الجنيُّ الذي أمر اللهُ " مريمَ " أن تأكلَ منه عند مخاضها في عيسى لتشفى وتتعافى ... شجرةُ اليقطين - إذا تحريناها واقتفينا آثارها سنجدُها في قصة كل نبيٍ وصالح من عباد الله ... وسنجِدُها في حياةِ كلِّ واحدٍ منَّا ... في مرحلة ما ... في تجربة ما ... في مرارة ٍ ما ... في إحدى عتماتنا وظُلماتنا ... سنراها لو بحثنا عنها بعينِ الإيمان واليقين بعظمة الله ورحمته ... ولكن القضية ليست في وجودها ... قضيتنا الإنسانية هي قدرتنا على رؤية هذه الشجرة التي يرمز بها اللهُ إلى الخلاص الإلهي والإغاثة الإلهية الحكيمة لمن يستجيرُ به من عباده ويحسنُ الظنّ به ويذكره تائبا مسبحا مُنيبا معترفا بما سلفَ منه ... 

*** وكما  كان التسبيحُ هو البابُ الذي ولج منه " يونس " إلى رحمة الله وعونه وإغاثته ... هكذا كان التسبيحُ هو البابُ الذي ولجَ منه " زكريا " - علي السلام - إلى معجزة إنجابِ " يحيى " ... وكان التسبيحُ بوابة كثيرٍ من الأنبياء والصالحين إلى رحمة الله وعونه ... 

*** بطنُ الحوتِ  ابتلاءُ يونسَ - عليه السلامُ - وحده  ... وخلاصُه منه معجزة اختصه اللهُ بها وحده ... 
لكنَّ الظلُمات ... لكنَّ الظُلمات والكروب والهموم ... لكنّ العتمة والخوف واليأس والغم ظُلمات تنالُ من كلِّ إنسانٍ منَّا ... كلُّ حسب مقداره وأنصبته ... ونحنُ نسقطُ في ظلمات الحياة وابتلاءاتها حينَ تُظلمُ أنفسُنا وتضعف بالهمّ واليأس ... 
وكأنّنا ... جميعنا ... في بطنِ الحوتِ ...       
                               ولكن : هلْ منْ مُسبِّح ؟! 

           *** ***
  بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 

تعليقات