كَأَنْ لم تَغْنَ بالأمسِ ... كأنْ لم تغنَ !

** منذُ أن وطأتْ قدمي المدخلَ أخذني جمالُ السوقُ ولفتَّني روائحُهُ المليئة بالحياةِ : روائح الفاكهة والخضروات ممتزجة بالبخور الذي أطلقهُ بعضُ الباعةُ الأذكياءُ لاجتذابِ زبائنهم ... ورائحة النعناع والريحانِ والعطورِ الزيتية والرائحة الغامضة المنطلقة من ثنايا الأقمشة الشرقية الهندية والصينية ... رائحةُ هذه الملابسُ كأنها أرواحٌ تتنفس وتبعثُ في الروح إحساسا بأشياء قديمة حميمية مجهولة غامضة لكنها تبعثُ في الروح حنانا شجيّا وحزنا مألوفاً شفوقا مُلهما ... 
** تنقلتُ بأقدامي بل بأحاسيسي المتناقضة  من  حفيف الأقمشة إلى الندى المتطايرِ من عناقيد العنب الطازجة إلى أسرار البخور الحائم حول وجهي وحواسي والآخذ بتلابيبي -  إصرارا على إطلاق روحي راكضة في عالم مبهم - ... إلى رائحة الخضروات الطازجة التي لا تزالُ جذورُها وأراقُها تحمل حكاياتِ الأرض وأسرارها وأعماقها وأسرار الإنباتِ والتجذير والسُقيا ... لاتزالُ تحملُ حنانَ العلاقة بين الأرض وووليدها النابت ... وكذلك حزن الأرض عند الحصاد واختطافِ أجنّتها ... 

*** ولجتْ روحي إلى بوابة شعورية حادّة حتى أحسستُ بأنني لا أتنقلُ بقدمي بل أتطاير من هنا وهناك مابين خدود عنقود العنب إلى وجنات القماش الهندي الحريري إلى تنهدات البخور وشهيقه إلى صخب اللون الأخضر والأحمر والأصفر في الخضر والفاكهة ... إلى لمعان العطور وانبعاثاتها ... 
كان هذا الموكبُ الصاخبُ من هذه الكيانات المثيرة لروحي مصحوباً بنداءات شجية من بعض الباعة ... نداءات إلحاح وإغراء بالشراء ونداءات أمل  ورجاءٌ وأمل في الربح ... ونداءاتٌ  مصحوبة بنغمة عفوية شجية فيها حنينٌ لأرض نائية ووطنٍ بعيد وأحبةٍ لم يعودوا كما كانوا ... 
كان الزحام لافتا والأوراقُ المالية تتنقّل في الهواء بين الأطراف المختلفة ... كانت الأقدام تهرول مسرعة تحملُ ثقيلا وخفيفا من البضاعة المزجاة ... 
حمل البعضُ بضاعته على ظهره ، وحملها البعضُ في أكياس خفيفة ، وكدّس البعض مشترواته في حقيبة سيارته ... 
كانت الخضرُ اليانعة - والفاكهة - تنعصر في يد المشترين من اللهفة عليها والعجلة بها ... وكانت الأقمشة تتخطفها الأيدي وتسرعُ بها فتبدو لي من بعيدٍ وكأنها أطفالٌ حملها أهلُها وأسرعوا بها خوف الزحام ... 

*** البعضُ أنفق ما يحمل من المال ... ومازال في السوقِ ما يصبو إليه ويرجو شراؤه ... ما زال في السوقِ ما يجذبُ العين والأنف والسمع والحواس ... مازالت هناك أشياءٌ نحلم بها ما زالت هناك عطورٌ نريدُ شمها ... وأقمشة نهفو إلى لمسها ولبسها ... وفاكهة نشتهيها ... هناك بخورٌ نريدُ أن  نمتلك غموضه  ... لكن المال نفد جميعُه ... وفي الوقتِ ذاته لا    نستطيع أن نتنازل عن شئٍ مما اشتريناه لنأخذ بدلا منه ما نزالُ نريدهُ ... 

*** استغرقتُ في تأمل هذه المعادلة القاسية العسرة ... كيف تتحقق ؟ كيف نشتري كل ما في السوق ؟ وكيف يتسنى لنا  في كل مرة يُقام فيها هذا السوق أن نحمل  كل ما فيه  ... ؟! 
لم أنتبه من شرودي إلاَّ على لون الشمس الشاحبة تحتضرُ في الأفق ... ولاحظتُ ركض الباعة ملهوفين يحملون بضائعهم في جوالاتٍ ويستعدون للمغادرة .... بينما كان الزبائنُ يركضون وراء الباعة في محاولة اللحاق بشراء شئٍ أخير ... 
كان الكلُ يركضُ : الباعة والمشترون والوقتُ والشمسُ في كبد السماء ... وكذلك كان المال يركضُ من يدٍ إلى يدٍ  ... 
وكان الكلُّ ينتهي ويتطايرُ ويختفي : البضائعُ وندى العنب و أسرارُ البخور وغموض حنان الحرير والمال والباعة والمشترون ... وأضواءُ النهار ... 

*** في لمح البصر انفضَّ السوقُ العامر الصاخبُ العبقُ المثيرُ ... في لمح البصر سكت صوتُ الغناء الشجي والحنين والرجاءُ والفرحُ بالمكسب ... في لمح البصر أغلقت السيارات أبوابها وأبواقها واختفت من المشهد ... وكذلك أكياسُ الباعة والأيدي المتعاركة والأيدي المليئة بالأوراق النقدية ... 

*** صالتِ الريحُ في المكان الفسيح ... استعادت الريحُ دور البطولة فأطاحت بما تبقى في السوق من أكياسٍ ورقية وبلاستيكية ، وما تساقط من  الفواكه العطنة ومِزق القماشٍ وبقايا فحم تعب من الاشتعال تحت غموض  البخور  ... 
صالتِ الريحُ بسطوتها المعروفة وجرأتها وتطوحت معها القطط والكلاب التي تواجدت في المشهد حين خلا من الحياة ودبيب قدم الإنسان ...
تجرأت الكلابُ والقطط على المواء والنباح الصاخب الصفيق  واشتركت مع الرياح في تمزيق البقايا المتخلفة في السوق ... وانبعثت فجأة روائح  عطنة عفنة من صناديق النفايات ... روائح عفنة كانت قد تراجعت أمام سطوة البخور والعطور والزيوت الذكية ... 

*** شهقتُ دهشةً وحزنا : أين تبخر السوقُ ؟! وكيف اختفى بهذه السرعة ؟ ! لقد كان مقاما على أعمدةٍ خشبية هائلة وسرادقات ضخمة تحتاج وقتا لنزعها ... أين ذهب الزحامُ والكلامُ والمزاحُ والخصامُ والجدالُ وشهوة البيع وشعار الشراء ؟! أين ذهب ملمس الحرير ورائحة البخور وملمس ورق العنبِ ؟! أين السيارات والأقدام والوجوه المتوردة حياةً وإقبالا وصخبا ... أين الضجيجُ ؟! أين الـ ... حياةُ  ... أينَ الــ  ... حياة؟! 
علا صوتُ المؤذن : اللهُ أكبرُ ... لا إله إلا الله 
حي على الصلاة ... حيَّ على الفلاح ... 
اللهُ أكبرُ ...لا إله إلاَّ الله ... 
شعرتُ بيدي القابضة على المشتروات - شعرتُ بها تلينُ وتفلتُ ما اشتريتُ لتقع الأكياس على الأرض ... 
 ... ووقفتُ أحدٌق في السحبِ الراكضة : ما الذي تحملُه وتركضُ به مسرعةً : أعمارُنا ؟ أحلامُنا وأطماعنا التي لا تنتهي ؟ أعمالُنا وتهالُكنا على هذه الحياةِ ؟ أدلةُ غياب وعينا بسرابية الحياةِ الدنيا وزوالها  رغم أن هذه الحياةُ مشيدة في ظننا ووهمنا على أعمدة خراسانية ورخامية ؟ 
ما الذي تحمله السحبُ النشطة المتعجلة ؟ 
من المؤكد أن السحب لا تحمل أكياس بضائع مثلي ... فالسحب ليست ساذجة لتضيّع عمرها الثمين في الركضٍ المحموم في شراء  المتاع العابر ولا تضيع عمرها في  الحزن من العجز عن شرائه ...! 


*** حدقتُ شجية في السوق الذي صار أرضا خربة ، في الزينة التي بعثرتها  الريح ...  وتذكرتُ قوله تعالى : 

" إنّما مثلُ الحياةِ الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماء فاخْتلطَ به نباتُ الأرضِ ممَّا يأكلُ الناسُ والأنعامُ حتّى إذا أخذتِ الأرضُ زخْرُفَها وازّيّنت وظنَّ أهلُها أنّهم قادرونَ عليها أتاها أمرُنا ليلاً أو نهاراً فجَعلناها حصيداً كأنْ لم تغنَ بالأمسِ كذلك نُفصِّلُ الآياتِ لقومٍ يتفكّرون " سورة " يونس / الآية 24 

لملمت بعض أكياسي المُتساقطة على الأرض  ... وإلى الآن لا أعلم : لماذا غفلتُ عن بعضها الآخر  ... جرّرتُ أقدامي - بل جرّتني أقدامي - لأنسحب بالتدريج من جبروت هذا المشهد ... وإلى الآن لا أعلم : هل كان وقعُ خطواتي هو الجنائزي  أم وقع دقّات قلبي وصوتُ شهقاتي ... لكني أتذكرُ بوضوحٍ أنّ صوت بكائي كان مختلطا بمواء القطط ونباح الكلاب وأزيز الرياح  ... وحفيف الأكياس الفارغة   ...! 

           بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 

تعليقات