الأبيض ... والأسود ...مستقرٌ إلى حين ... !

 ** جاء صوتُ المذيعُ فخما مهيبا وهو يؤكد أن قناة ( ... ) التليفزيونية ستنفردُ حصريا بتقديم فقرة فنيّة كلاسيكية تُعدُّ من التسجيلات النادرة لمطربة تُعدّ هرما رابعاً ... حازت على ما لم يحزهُ غيرهُا من الشهرة والمجد والتقدير في العالم العربي كله ... ويعدُ ظهورها في حد ذاته - وإن لم تغن - حدثا كونياً كبيراً ...؟! فهي صاحبة الفن الخالد والاسم الخالد واللحن والكلمات الخالدة التي لا يقوى عليها الموتُ ولا يتحداها النسيانُ ... !! كما أنّ فقرتُها الفنية التي ستًقدم الآن من المقتنيات الثمينة التي تكبّدت فيها القناةُ ثروةً مالية باهظة لإسعاد مشاهديها وإمتاعهم بالفنّ الراقي في الزمن الماضي الجميل ... و.... و.....
لم أتمالك من الضحك المتواصل والمذيعُ يواصلُ ويواصلُ محاولاته العبثية في تخليد اسم المطربة ورفع قامتها على مجرد ذكر الموت والفناء والنسيان ... ويدفعُ عنها  أن ينالها ما نالَ غيرُها من عفاء الزمان أو نشاط الـ النسيان ... فقد قلبت موازين الأشياء وأثبتت قدرة الإنسان على الخلود ...تماما كما قلبت موازين الفن والإمتاع والنشوة والطرب ... 
ثم أخذ المذيعُ يشيدُ بثوب السهرة الذي ترتديه المطربة الكبيرة في هذه الليلة الخالدة - أيضا - ويسردُ علينا قصة حياة الثوب منذ أن كان قماشا ويشيدُ بذوق الفنانة الكبيرة وبحرصها الشديد على تكتّم كل التفاصيل الخاصة بلونه وموديله وكذلك الحذاء الذي ترتديه معه لتفاجئ الجميعَ بمظهرها الباهر ...  
أطارَ عقلي المذيعُ بإلحاحه  على تكرار كلمة الخلود ومعنى الخلود ومرادفات الخلود وإصراره على أنه لا يقدّمُ حفلا فنيا بل يقدم التحدي الخالد للفناء ويقدم لنا المعنى الحقيقي للخلود ... !  فقررتُ أنْ أتعرف على هذا الـ خلود وأنْ أشاهده ... أرجأتُ نوبة الضحك التي تملكتني لأحيط بتفاصيل المشهد الخالد ...  

*** بعدَ عدّةِ عباراتٍ  تشويقية تسويقية بدأ العدُّ التنازلي وتصاعد صوتُ الموسيقى الفخيمة تقدّم مطربةً مشهورة ذات قامةٍ وهامةٍ في الغناء ... بل هي قامة الغناء وهامته في قلوب محبيها ومعجبيها من المشرق والمغرب ... 

** ارتفع الستار عن الفرقة الموسيقية تتقدمها المطربة ... انفتح الستارُ بشكلٍ مسرحيٍ دعائي ...كانت الكاميرا تنتقل بين أعضاء  الفرقة الموسيقية وبين  المطربة الهَامَة ... كما كانت الكاميرا تتنقلُ بين الجمهور الذي ملأ مسرح الأوبرا وتسلط الضوء  على نماذج منفعلة بالأداء دالة على نجاح الحفل البهيج ... كانت بعضُ الوجوه  منتشية هائمةً باللحن ...وبعضها  متأثر بكلمات الأغنية ... ممتنّ لمجرد  التواجد في حضرة المطربة الــ خالدة ... كانت الوجوهُ  منبهرة بالأضواء وباللمعان ... 
رغم أنَّ الحفل كان مصوّرا بالأبيض  والأسود  فقط  - لأنه قديم جدا  - رغم ذلك  فقد كان كلُّ شئٍ  يلمعُ : فستان السهرة الذي ترتديه المطربةُ ... حذاؤها ... أقراطُها وعقدُها وألفُ خاتمٍ ألماسيٌ وذهبيٌ في أصابعها ... بذلات السهرة اللامعة التي يرتديها أعضاءُ الفرقة الموسيقية ... الجمهورُ أيضاً كان مُتخما بالملابس الفاخرة  وكان الرجال يمسكون السيجار الفخم في انتشاء واعتزاز الثراء  ...  وكان كثيرٌ من النساء يحركن أيديهن بحليّها الباهر ويربتن كل دقيقة على عقد اللؤلؤ الرابض حول الرقبة والقرط الماسي المتدلي في إعياء من آذانهن ... 
كانت المشروباتُ والمأكولات  تروح وتجئ يحملها القائمون على خدمة الجمهور ... 
كانَ المشهدُ على  الشاشة  لوحةً للاكتمال ... هكذا كان يبدو ... لا لا ... بل هكذا كان يجب أن يبدو ... لأني لم أرَ بروحي  شيئاً ممّا وصفتُ الآن ... كانت عيني تبصرُ شيئا  وروحي  تبصرُ غيره ... 
** حين انفتح الستارُ  شهقتُ وأدرتُ وجهي للحظة لأن الستار انفتح أمامي  عن مقابر تكشفت وراءه ... لم أكن أر المطربة الكبيرة ... كنتُ أرى جثةً متحلِّلة لمطربةٍ توفِّيت منذُ أربعين عاماً وعاث فيها الدودُ وأقام العفنُ مملكتَه ... كنتُ أدعكُ عيني كثيراً لأستعيد الشاشة الحقيقية المعروضة وأطردُ شاشة العرض التي أقامتها روحي أمام عيني ... 
كانت المطربةُ تتمايلُ منتشية تتأوهُ وتتنهدُ ناعيةً منْ هجرَ ومنْ خانَ ومن أعانَ عليها الزمان ... وكانت لآلئها وألماسها تهتزُ معها لكن شاشتي الخاصة كانت تعرضُ أمامي هيكلا عظميا يتراقصُ بتجويفاته وعظامه النخرة ومحجري عينيه فزعا من وحدة القبر ومن خيانة المجد والخلود لا من خيانة الحبيب والنصيب  ... 
كانت  صالة المسرح قبراً كبيييييرا  أمامي تتكدسُ فيه الجثثُ العطنة وتستندُ على كتف بعضها البعض ... هكذا رأيتُ كل زوجين مستندين متكئين على بعضهما البعض كنتُ أراهما مائتين متحجرين ...  كنتُ أحدٌق لاهثةً في سيدةٍ مسنّة من الجمهور تربو على الستين عاما وأتساءلُ : إلى أي مرحلة من مراحل  التحلّل وصلت ...؟ وإلى أي حدٍّ عبثت بها الديدانُ والجدرانُ والليالي المتعاقبة من الزمان ... 
وهذا  ... هذا الرجلُ الباهظُ السيجار والبذلة الذي لا يتوقف عن الإيماء ببنصره فخورا بخاتمه الثمين ... أفي الأربعين هو ؟ أفي الخمسين يوم أُقيم هذا الحفل ... أمائتٌ هو أم مازال يتنفس ؟ وإن كان ما زال حيا فأي حياةٍ لمن هو في الثمانين أو التسعين ؟ أين خاتمُه وأينَ سيجارهُ ... بل أين بنصرهُ الحائرُ كِبراً ؟ أين الزهو الذي كان يتقافز من عينيه والفخارُ وهو يومئ برأسه مع الموسيقى إيماءات من امتلأت جيوبُه بالحياة الدنيا واستنفذ كل المتاع و...  ولم يبق له إلا أن ينتشي للطرب ...؟ 
أينَ همُ أعضاءُ الفرقة الموسيقية ببذلاتهم المُنشَّاة وذاكرتهم الموسيقية المستنفرة وراء إشارات المطربة الكبيرة ؟! 
أين الماسُ والذهبُ الذي أثقل صدر المطربة وأذنيها ويديها ؟! أوقعَ في يدِ ورثتِها أم أنه أصبح ملكاً عامّا تتخذهُ الدولةُ وسيلة لإحياء ذكرى المطربة التي تحدّت الفناءَ وروضت الخلود ...؟! 
أين ذهبت المشارعُ التي كانت تتقافزُ من عيون رواد الحفل ؟ مشاعر الحب واللوعة والحزن من الهجر والشوق إلى الوصال...؟! ما حجمُ ما كان يشكون منه الآن ؟! لقد كان كل منهم يعتبر تجربة الحب الفاشلة التي عاشها قاصمة ظهره ، وغياب الحبيب والتوائه وهجره أعظم ابتلاءات الدنيا ...! وكان بعضهم على استعداد ليقايض بحياته في مقابل استعادة لحظة رضا من الحبيب ولحظة وصال فاتت وماتت ...  ما حجمُ مثل هذه الهموم الآن  ؟ وهل ... هل لو استطعنا إنطاق عظامهم النخرة الآن سنجدُ فيها المشاعر ذاتها والاندفاعات بنفسها ... هل سنجدُ فيها ما نراه الآن على الشاشة من تنهيدٍ وشرودٍ وشكوى وغفلة ولهو عن كل شئ حتى عن المآل الأخير ... ؟! 

*** استرسلتُ في تأملاتي وتساؤلاتي لاهثة وأنا بين تصديق وتكذيب أن ما أمامي ليس قبورا ... ثم قفزتُ فجأةً من مكاني وقد لسعتني بارقةُ فكرٍ مفزعة ...بارقةُ فكرٍ تقول : هكذا حينَ تُفتحُ القبور ويبعثَرُ ما في الصدور ... هكذا يوم البعث الجليل سنبعثُ بما متنا ونحنُ نحملُه ... ستخرجُ جوارحنا ما كنا نكتنزهُ من عملٍ صالح أو غير صالح ... هكذا ستبدو الأرضُ ويبدو الكونُ للخالق العظيم : قبراً هائلا مفتوحا ونحنُ جميعا متراصّون فيه متساندون متسنّدون ... عظامٌ نخرة وهياكلُ مجوّفة عطنة ليس فيها أثر للذهب أو للفضة والألماس ... ليس فيها أثرٌ لفاخر الثياب أو العطرِ والزهو وتيه الاطمئنان إلى الدنيا ... 
وكما أن هذا الحفل تم تصويره باللونين الأبيض والأسود لأنه قديم ... هكذا سيكونُ ماضينا أمام أعيننا يوم القيامة : شريطا تم تسجيله بأحد اللونين : الأبيض أو الأسود ... أو بالأبيض والأسود ... لكنه أبداً لن يُعرضَ علينا بألوانِ الحياةِ الزاهية التي تُخدّرنا الآن وتحجب عنّا الحقيقة ... لن يُعرضَ علينا بألوان الفتنة والزينة والبهاء  ... فالحياة في وصف ربّ العزة : مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين ... ليس إلاَّ الأبيض والأسود ... ما منْ مناصٍ من الأبيض والأسود ... 

                       بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح  

تعليقات