الأُنثى في الطرحِ القرآني : كيانٌ بللّوريٌ مُدلّلٌ ...


* إذا كان مُسمى المرأة يطرحُ في القرآن الكريم دالاًّ على المتزوجة الناضجة سنا وفكرا وخبرةً حياتية ...  فإنَّ  مُسمّى الأنثى يُطرحُ  في الكتاب  الكريم في مقابلِ الذّكر ...ليدلَّ  على عموم هذا الجنس مقابل عموم الجنس الآخر كوضعية بيولوجية  كما في قوله تعالى : 
" أنِّي لا أُضيعُ عملَ عاملٍ منكم منْ ذكرٍ أو أنثى ... "
سورة آل عمران / الآية 195
وقوله تعالى : 
" ومنْ يعمل من الصالحاتِ من ذكرٍ أو أُنثى وهو مؤمنٌ فأولئكَ يدخُلونَ الجنّة و لا يُظلَمُونَ نقيراَ " سورة النساء / الآية 124 
ويقولُ تعالى : " اللهُ يعلم ما تحملُ كلُّ أُنثى وما تغيضُ الأرحامُ ... " سورة الرعد / الآية رقم 8 

** بهذه الدلالة البيولوجية تُطرحُ الأُنثى في القرآن الكريم  مُحاطةً بتصّورٍ خاص ... فهي بتكوينها البيولوجي ضعيفةٌ تحتاجُ إلى من يساندها في الحياة ، وهي بهذا التكوين ذاته  مثار طمعٍ واشتهاءٍ ورغبة ؛ ومن ثم فقد كان إنجابُ الأنُثى مدعاةً للقلق والفزع والغمّ  عند العرب  في الجاهلية ... كانت عبئاً في الحلّ والترحالِ ... عبئا في رحلة البحث عن الماء والكلأ ... عبئاً في الحروب - لا  لأنّها لا تساهمُ فيها فقط - ... ، بل لأنها كانت تُستخدمُ أداةً في الحرب لانتقام الأطراف المتخاصمة بعضها من بعض فكانَ سبيُ النساء واغتصابهن وتحويلهن إلى إماءٍ وسبايا وسيلة تنالُ بها كلُّ قبيلة من القبيلة المعادية لها وتقلبُ بها نتائج المعركة ... 
** بل كانت الأنثى عبئا في السلم ومحلّ تهديد وقلقٍ  إذ يكفي أن يوقعها أحدُهم في  حبه أو أن يُعجب بها شاعرٌ من شعراء القبيلة المغايرة - أو من شعراء قبيلتها - فيتغزل بها ويصرح باسمها أو يدل على هويتها فيلحق العار بقبيلتها إلى الأبد فتقتحم الحرب لإزالة هذا العار أو ترتحل إلى مضارب جديدة هربا من أن تُعيّر بإناثها ... فالأنُثى - في التصور الجاهلي العربي القديم - عبءٌ في الحب والحرب وعار في الحب والحرب ... في السلم والقتال ... ولذلك كان البعضُ يئِدُها تخلّصا من العبء والعار ... وقد وصفَ ربُّ العزة كيفية تلقّي الأنثى في المجتمع الجاهلي ومدى عجزه عن تقبل عبئها  ممّا يدفعه إلى وأدها ... يقول تعالى : 
" وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهو كظيمٌ 58 ) يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُونٍ أم يدُسُّهُ في الترابِ ألاَ ساءَ ما يحكُمُون 59) 




*** بهذا التّصور الدوني للأنثى ... بهذا التصور العدائي لها كان الجاهليّون يجعلون للملائكة صفات الأنثى سخرية وإقلالاً من شأن الملائكة ... - في الوقت الذي يحتفلون فيه بميلاد الذكر ويُولمونَ ويذبحون الذبائح وينشدون الشعر-  ...  وقد سجل اللهُ تصورهم العدائيّ  هذا في كثيرٍ من الآياتِ كقوله تعالى  : 
" أفَصْفاكُم ربُّكم بالبنين واتَّخذ من الملائكةِ إناثاَ ..."
سورة الإسراء / الآية 40 ... 
وقوله تعالى في سورة الزخرف / الآية 19 
" وجعلُوا الملائكةَ الذين هم عبادُ الرحمنِ إناثاَ "
بهذا التصوّر أسفتْ امرأةُ عمرانَ ، وناجت ربّها كسيفة البالِ : 
"فلمَّ وضعَتها  قالت ربِّ إني وضعتُها أُنثى واللهُ أعلمُ بما وضعتْ وليس الذّكرُ كالأنُثى ... " سورة آل عمران / الآية 36 
أسِفت امرأةُ عمران لأن رجاءها خاب في وفاء نذرها فقد كانت تؤمّل في إنجابٍ ذكر يخدمُ بيت العبادة ويحيي شعائرها وتهبه لله شاكرا عابدا ... ولكنها أنجبت أُنثى ضعيفة عبءٌ وكلٌّ على غيرها لن تقوم بالأمر ولن تُوفي النذر ... هكذا كان توقّع امرأةُ عمران ... ولم تكن تدري ما يخبِّئهُ اللهُ في غيوبه لهذه الأنثى " السيدة مريم " التي خصَّها بمعجزة باهرة لم يكتبها لغيرها ممن خلق من الإناث أو الذكور ... وأنه أوجد من ضعفها قوة ومن أنوثتها كرامة وفضلا وإحصانا وآية مبهرة إلى يوم الدين ... 

***

بهذه الوضعية الخاصة للأنثى نجد مرتبتها الأخيرة في آية القصاص في سورة البقرة ... يقولُ تعالى : 
" يا أيُّها الذين آمنوا كُتِبَ عليكمُ القصاصُ في القتْلى الحرُّ بالحُرِّ والعبدُ بالعبدِ والأُنثى بالأنثى ... " الآية رقم 178
لقد اشتملت الآيةُ الكريمة على مراتب ودرجات ، هي : 
الحُرّ ... ثم العَبد ... ثمَّ الأنُثى ... 
 إن هذا الترتيب ليس ترتيبا للقيمة والمكانة الإنسانية ولكنه ترتيب وفق مقياس الحرية والقدرة على الفاعلية في الحياة   والاستغناء عن كفالة الآخر ... فقد ذُكرت الأنثى هنا  مع  وضعيتين مختلفتين ، هما : الحر ، والعبد ... وقد تقدّم الحرُ باعتباره الأكثر أهمية للمجتمع  وإعماره نسلا وبناء ... ثم كان العبدُ تالياً له لأنه أقل منه في درجة الحرية والقدرة على الفاعلية في المجتمع نظرا لعبوديته ... ثم كانت الأنثى تالية لكليهما فهي تفتقدُ أمرين : الذكورة ... والاستقلال ؛ ... فهي ليست ذكرا ... وهي تحتاج إلى ذكر يديرُ شؤونها !... ومن ثم كان ترتيبها الأخيرفي آية القصاص  ... 

** الأنثى ضعيفةٌ بتكوينها الخاص الذي يجعلها مثار اشتهاء ويجعلها في حاجة إلى متَّكأٍ ومستندٍ في الحياة ... لذا يتقدّمها " الذكرُ " في سياقِ كثيرٍ من الآيات القرآنية يتقدّمها لا باعتبار الأفضلية بل باعتبار القيادة  ... يتقدمها مثلما يتقدم القائدُ جنوده ومثلما يتقدّمُ الدليلُ  قافلته ... كما أنّه يتقدّمها في سياق هذه الآيات ليدلَّ على أهمية وجوده في حياتها ليدير لها هذه الحياة ويخلصها من أفخاخ الخطر ... لذلك يذكرُ أولا في الآيات القرآنية ثم تأتي الأنثى تالية له في الآية وكأن الله - سبحانه - حين يذكر الذكر أولا يؤمّن للأنثى صمامَ أمانها ثم يذكرها حين يوفّر لها هذا الأمان ... كما أنّ ذكر الـ " الذكر " أولا ينسجم مع حقيقة سبق الذكر للأنثى في عملية الخلقِ فقد خُلِق آدمُ أولا ثم خلق الله منه زوجه ... لكلّ ذلك يتقدّم الذكرُ الأنثى في الآياتِ القرآنية ... في أدوار الحياة ... في وضعية الكون عامّة لأنه تقدّم أقرّته سننٌ آلهية لا وضعياتٌ بشرية ... 
من ذلك قوله تعالى : 
" أنِّي لا أُضيعُ عملَ عاملٍ منكم منْ ذكرٍ أو أنثى ... "
سورة آل عمران / الآية 195
ومن ذلك تقدّم الذكرِ على الأنثى في أنصبة الميراث ... فالذكر يحظى بضعف نصيب الأنثى في الميراث انسجاما مع دوره في الحياة ومسؤولياته التي كلّفه اللهُ بها ... فهو مسؤول عن أُنثاهُ وما يأتيه منها من نسلٍ وهو مكلّف بالإنفاق على كل هؤلاء : من ماله ، ومن قلبه وعقله وحنانه وحكمته ورعايته ... ومن ثم فإن نصيب الذكر من الميراث يعودُ إلى الأنثى وكأنها هي التي حازت على النصيبِ الفائق وليس هو ... وكأنها صاحبة ماله كله ...
إنَّ كلَّ إناثِ الذكر يتقاسمنه ... يتقاسمن  ماله وعقله وفكره وحيويته وانشغاله وتوتره وقلقه ... كلُّ إناثه  : زوجته ، بناته ، أمه ، أخته ، ... والذكرُ يحتاج إلى أن يزهو أمام كلّ إناثه بما منحه اللهُ من : فكره ، ورجولته ، وقدراته على حمايتهن ، وماله ... ومن ثم فإن نصيبه المُضاعف في الميراث هو نصيبهنّ ... شرعه اللهُ للذكر ليكفل به الأنُثى ... حنانا من المولى بالأنثى وتأمينا لحاجاتها وإكراما لها ... وانسجاما مع ما كلفها به بطاعة ذكرها واتباع خطواته ... فكان لابد أن يجعل ذكرها قادرا على التكفّل بها ورعايتها ليحقق فيه شروط القائد المُتّبع المُطاع ...
الأنُثى مُهانةٌ في عموم التَّصور البشري  ... لكنّها كريمة مصونةٌ مُدلَّلةٌ في الطرح القرأني الذي يؤكد رعاية الله لها وتدبيره أمرها وكفالته لها بما يحفظُ حقوقها ويحفظ كيانها الزجاجيّ البللوري ويحفظُ تكوينها الذي يسبب لها كثيرا من الابتلاء ويجعلها في حاجة للاحتماء ... ولكن هذا التكوين سيكون محلَّ سموٍ وارتقاء إذا لجأت الأنثى إلى ظلِّ اللهِ الظليل وجعلته كنَفها الأمين واحتمت بما أوجده لها من أسبابِ التدليل والتكريم ... 

                       ***** بقلم : د . كاميليا عبد الفتاح  


تعليقات