اللَّهمَّ إنَّا نشكو إليك شغف الروح .. والحسُّ عاجز ...

نمتلك الحواس الخمس ... لدينا القدرة على أن ننظر ونرهف السمع ونستشعر ونتشمم ونتذوق ... ولكن هل : 
- نبصر ...؟ 
- نسمع ...؟ 
- نشعر...؟
- .......؟ 
-......؟ 
وهل مكّنتنا حواسُّنا هذه من إدراك العلم ...؟ هل استطعنا أن ندرك الوجود ، وماوراء الوجود ؟! 
هل استطعنا أن ندرك دلائل وجود الله وأن نُحيط بها بما يكفلُ لنا تعظيمه وتوقيره كما يليقُ به ، وبما يكفي لأن نكون مستحقين لأنعمه علينا ، بل بما يكفي أن نعيش ما خلقه لنا ، وأن ننهل من أنعمه التي سخرها لنا في هذا الوجود ؟ 



** إن الطرحَ القرآني يعرضُ  هذه القضية  بوصفها إشكالية ، حيث لا يبدو امتلاك الحواس دليلا على القدرة على الإدراك والوعي ، ، ولا يبدو - من ثم - دليلا على امتلاك المعرفة والعلم ... 
***يصفنا اللهُ - سبحانه بأننا  لا نعلمُ مادّة الخلق التي منها خُلِقنا ... يقولُ تعالى : 
" سبحان الذي خلقَ الأزواجَ كُلَّها ممَّا تُنبتُ الأرضُ ومنْ أنفسِهم وممَّا لايعلمون " سورة يس / الآية 36 

*** كذلك فنحنُ  لانبصرُ كلَّ أبعادِ الكونِ ، ولا نرى كلّ جنباتِ الوجود ، فلأبصارنا مدىً لا تتجاوزهُ ... مدىً هائلاً يبرزُ الفارق بين قدرة الخالقِ وعظمته وإحاطته وقدرة المخلوق المحدودة ... المحدودة ... المحدودة كيفاً وكمَّا  ...
ولذا ... يقسمُ - سبحانه - بما نبصر وبما لا نبصر من عظيم ما خلق ! مستنفراً أرواحنا إلى تصوّر عظمة ما لا نراه ... ما لانراه ... 
يقولُ تعالى : 
" فلا أقسمُ بما تُبصرون وما لا تُبصرون 39) إنَّهُ لقولُ رسولٍ كريم 40 ) سورة الحاقة 

***  نحنُ لا نبصر مسارات الروح إلى خالقها ، ولا نحيطُ بأطوارها وتحولاتها من عالم المادة إلى عالم الغيب  ... نحنُ - كما يصفُنا اللهُ تعالى - ننظرُ ولكن ... لا لا..لا...لا... لا نبصر 
يقولُ تعالى : 
" فلولاَ إذا بلغتِ الحلْقُومَ 83) وأنتم حينئذٍ تنظرُون 84 ) ونحنُ أقربُ إليه منكم ولكن لا تبْصِرون 85)  سورة الواقعة 

* إن العجز عن الإبصار والعجز عن الإدراك والإحاطة يؤدي إلى العجز عن العلم ... ومن هنا انتفاء العلم عن الإنسان ...أو لنقل انتفاء مطلق العلم عنه واحتجازه في محدودية العلم ، فالإنسانُ لا يعلمُ إلا بقدر ما تسمح - حواسّه المحدودة ، وبقدر ما يحتمل تكوينه المؤقت المخلوق لحياة عابرة مؤقتة وصفت بأنها مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين ... 

*** ويطولُ بنا الحديثُ إذا أردنا تتبع الآياتِ القرآنية التي تنفي عن الإنسان مطلق العلم ومطلق المعرفة والوعي والإدراك بجليل الخلق وأسرار التكوين ... 
يقولُ تعالى : 
" لَخلقُ السماوات والأرض أكبرُ من خلقِ الناسِ ولكنَّ اكثر الناس لا يعلمون " سورة غافر / الآية 57 
ويقولُ تعالى : 
" وما خَلقناهُم إلاَّ بالحقَّ ولكن أكثَرهُم لا يعلمون " سورة الدخان / الآية 39

***  ينفي - سبحانه - مطلق العلم وإدراك حكمة الغيوب عن الجنّ كما نفاهما عن الإنس أيضا ... يقول تعالى - في سورة الجن - فيما ساقه على لسانهم  : 
" وأنَّا لاندري أشرٌ أُريدَ بمَنْ في الأرضِ أم أراد بهم ربُّهم رشدا " الآية رقم 10 

*** وهنا تبدو عظمة الله السميع البصير ، هنا ... نتفهم ونتدبر بوعيٍ معنى وصف الله - سبحانه لذاته بأنه السميعُ البصيرُ المُحيط بخلقه ... الواسع المُدبّر الذي لا تأخذهُ سِنة ولا نوم ... الذي لا يعزبُ عنه مثقالُ ذرة في الأرض أو في السماء ... الله الذي يدرك الأبصار ولا تُدركهُ الأبصار ... 
بقولُ تعالى في وصف عظمة ألوهيّته : 
" أَمَّنْ يملكُ السمعَ والأبصارَ ومنْ يُخرجُ الحيَّ من الميّتِ ..." الآية رقم 21 سورة يونس 

*** ونحنُ نقولُ في ابتهالنا إلى الله وتضرّعنا إليه في صلاة الاستخارة : 
" اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم ؛ فإنك تعلم ولا نعلم ....وتقدر ولا نقدر ... وأنتَ علاَّمُ الغيوب ..." 
نحنُ نعترف بأننا لا نعلم ولا ...نقدر : ماذا نمتلكُ إذن غيرَ رحمة الله وعونه ومساندته لنا ... ما الذي نستطيع ادعاء امتلاكه بعد ذلك ؟ ما الذي نستطيعُ أن نفاخرَ به ونخبطَ الأرضَ زهواً وكِبراً ؟!  
***  كيف تملكت البعض منَّا  حماقةُ إنكار وجود الله لعدم قدرته على رؤية  الأدلة المادية الدالة على هذا الوجود   ؟! كيف تملّكت البعض منَّا صفاقة إنكار يوم البعث والنشور لأنه لا يستطيعُ معاينة  صدق وقوعه بالروح أو  بالحسّ ؟ ! .... كيف ندّعي القدرة والعلم  والحسّ عاجز ... كيف والحسُ مجهد ناقص أعرج؟ من أين لنا جهالة الكِبر والاستعلاء بنقصنا على الكامل المتعالي المحيط ؟ 
كيف نعاينُ في أنفسنا العناء والنقص والتناهي والفناء التدريجي ممثلا في المرض والوهن والشيب ثم نتصدّى للسماء مطالبين بأدلة على وجود خالقها ... في الوقت الذي تدهش فيه السماء من هذا التصدي لأنها في ذاتها  دليلٌ على وجود الله  فضلا عن امتلائها بأدلة وجود البديع الخالق سبحانه ... 
كيف ندرك ونعلم علم اليقين أن أبصارنا لا تتعدى - في قدرتها - أمتارا معدودة ، وكذلك أسماعُنا ... ، وكذلك سائر حواسّنا ثم نتهم الغيوب بالغيابِ ولا ننتبه إلى أن الغياب الحقيقي  هو غياب بصيرتنا وعماء قلوبنا نحن عن الهداية ؟ 
إن الله - سبحانه - يتوعّدُ منْ عميِت أبصارُهم وقلوبهم وسائر حواسّهم عن إدراكه ؛ لأنه سبحانه - نثر في الكون مراتب وأنواع  من القرائن الدالة على وجوده :
- قرائن  تُعاينُ بالحواس المحدودة التي يمتلكها كل إنسان - بل كل من خلق من الثقلين - وقرائن  تُعاينُ بالروح المُحلّق المُحب للخالق وتُعاين بالفكر المتدبّر المتأمل ... بالعقل المخبتِ المنقّب... 
يتوعد اللهُ من عميت أبصارُهم ووقلوبهم عنه لأنه قطع الحجة عليهم وترك لهم على كل الدروب علامات إرشادية تدلُّ عليه واضحة ناصعة ... 
يقولُ تعالى : 
" ولقد ذرَأنَا لجهنَّم كثيراً من الجنِّوالإنسِ لهم قلوبٌ لا يفقهونَ بها ولهُم أعينٌ لا يُبصرُونَ بها ولهم آذانٌ لا يسمعُون بها أولئكَ كالأنعام بل هُم أضلُّ أولئكَ همُ الغافلون "
 سورة الأعراف / الآية 179 

*** وهنا نقول : إن الروح المُحبة لله تبلغُ درجة من الشفافية والصفاء تمكّنها من إدراك ما لا تدركه الحواس من جنبات الكون وأسرار الخلق ولطائف التكوين و.... دلائل عظمة الله ووجوده ... 
كذلك الألباب ... الألباب التي أشاد اللهُ بها في كتابه ... الألباب المتدبرة المخبتة المنشغلة بالبحث المحب الودود عن حكمة الخالق ... البحث الإيجابي ... البحث المصدق المدفوع باليقين والإيمان والإعظام ... هذه الألباب تصل إلى إدراك ما لا تدركه الحواس الناقصة المحدودة ... 
وهذا ما يفهمُنا سر تبشير الله سبحانه لطائفة من عباده والذين وصفهم بالربانيين - في أحاديثه القدسية والذين سيصلون إلى مصافٍ يكونُ فيها اللهُ - سبحانه - سمعهم وأبصارهم ...وهذا الوعد ... هذا الوصف لا يُفهم إلا بتفسير واحد : هو أن الله سبحانه سيدعم نقص هؤلاء الربانيين بنفحة منه ... سيسمو ببشريتهم من حيث سمت أرواحهم فيتحررون من حدود الحواس المادية وتنطلق إمكاناتهم من البشرية إلى آفاق روحية ... حتى إن العبد منهم إذا أقسم على الله أبرَّ قسمه ...! 

*** إذن نحنُ نمتلكُ النظر ولكنا  لا نبصرُ إلا بمدد من روح الله 
... نحنُ نمتلكُ السمع ... ولكنا لا نسمع إلا بمدد من روح الله 
... لا نكونُ إلا بنفحة من روح الله وأمره وعونه ورضاه ... 
فَلنُطلق الروح من إسارها لنخرج من العماء والصمم والخرس ونواجه كونا صاخباً بأدلة تدلُ على خالقٍ حكيم ... أدلة خشع لها الكونُ كله واستعظمتها الجبالُ ... ووحدنا نحنُ ... وحدنا لا ...نراها ... 

***************
 بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح  

تعليقات