المُعجزة ... المُعجزة ... !

**
يحتاجُ كثيرٌ من الناس إلى وقوع المعجزات المادية ليستعيدوا إحساسهم بعظمة الله ، أو ليجددوا دينهم مرة أخرى ويُنشّطوا إيمانهم الذي أصبح مُهدّدا بالرتابة والآلية والاعتياد ...أصبح مُهدّدا بطوفان الحياة المادية  وتعقد مُتّطلّبات الغرائز والشهوات وتوترات العصر التكنولوجي .... 
*** وعلى مدار فتراتٍ متباعدة نعاينُ بعضَ هذه المُعجزات ؛ فقد حدث فجأة أن شفى رجل من إصابته بالشلل بعد طول صلاة وصيام ودعاء ... وحدث في أحد مواسم الحج أن عاد البصرُ لامرأة كفيفة- من عشر سنوات - ...عاد إليها البصرُ دون توقع وبعد أن يئست من الشفاء واعتادت العماء وتكيفت مع الظلام ، ووجهت ما تبقى من حياتها للعبادة وأداء الحج والعمرة وزيارة الحرمين الشريفين ما استطاعت حبا وائتناساً وعبادة وقُربى ... وقد فُوجئت - في أحد الأيام - بعد صلاة الفجر ببزوغ النور في عينيها وقدرتها على مشاهدة تفاصيل الكعبة المشرفة ثم تفاصيل المصلين ثم ... ثم مشاهدة تفاصيل جسدها  هي بعد مرور عشر سنوات لم تر فيهن صورتها في المرآة ... فهلّلت وكبرت ... وهلّل معها وكبّر من المصلين مَنْ عاينَ لحظة وقوع الحدث ... 
امرأة ثالثة فوجئت بحملها بعد أن أيأسها الأطباء وأفهموها أنها عاقر وعليها أن تتكيّف مع هذه الحقيقة وعليها أن تبحث عن بدائل الأمومة الطبيعية فاستغرقت في عبادة الله وأغرقت في الصلاة والصوم فرارا من حزنها ويأسها وائتناسا صادقا بالله واستعاضة عن حياة أسرية عجزت عن نوالها ... 
وهكذا ...هكذا ... نسمعُ كل يوم عمّن برئ من مرض السرطان ، ومن استعاد حاسة النطق أو السمع ، ومن شفي من بعض الأمراض النفسية أو العقلية ... وفي كل حالٍ ... في كل حال تقعُ رحمة الله  لمنْ يشاءُ من عباده دون أسبابٍ منطقية عقلية بشرية ممّا يعتادُ الناسُ في حياتهم ...أي دون أخذٍ بالأسباب التي تؤدي إلى تغيّر الحال وتبدّل الأمر .... 
*** هذه المعجزاتُ الماديّة التي يرحمُ بها اللهُ - سبحانه - منْ يشاءُ من عبادِه أشبهُ - في حدوثها - بسقوطِ صخرةٍ عظيمة في مياهٍ راكدة ... هذه المياه هي حياتنا ... هي حياتنا المادية التي أصابها الفقرُ الروحي الشديد وأصابها فتورُ الإيمان وتهدّد منابعه بالجفاف ...اصابتها الآلية وآفة العادة ...آفةُ العادة في أمور العبادة ....! فنحنُ نكاد نصلّي بالآيات القرآنية ذاتها التي نصلي بها منذ شهور - وربما منذ عام - نحنُ ننتظر شهر رمضان الكريم ونبتهل إلى الله أن يساعدنا في  إدراك فضله كي نقرأَ القرآن ... وفي الغالب تكونُ قراءة سريعة لختم القرآن لا لتدبّره ... نحنُ ننتظر البلاء العظيم والابتلاء حتى تجيش في صدورنا معاني الدعاء والاحتياج إلى الله والتبتّل إليه ... ننتظر عظيم الابتلاء حتى تتحرك دموعنا شفقة ورجاء واستغاثة وحاجة لله ... نحنُ ننتظر معجزة مادية تقع لأحد الناس أمام أعيننا حتى يتحركُ ما مات في قلوبنا من إعظام الله وإجلاله واليقين بقدرته ... ننتظرُ أن نرى - أو أن نسمع - عمّن برئ من  العماء أو الشلل أو من عاد له النبضُ بعد أن قالَ الأطباءُ إنه مات إكلينيكيّا وأنه جثة هامدة لولا الأجهزة الطبية المُغروزة فيه  ... ! 



**** يستوقفني هذا الأمرُ كثيراً وأعاينهُ في نفسي وفيمن حولي من الناس وأتساءلُ دائماً : لماذا لا نرى إلا  المعجزات  المادية لله ...لماذا نهلّل ونكبر لهذه المعجزات وتتساقطُ دموعنا معلنةً أنْ لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ؟ لماذا لا نشعر إلا بالمعجزات الإلهية التي تعاينها الحواس ولا نشعر بالمعجزات الإلهية التي تعاينها الروحُ وتتلمّسها ؟ لماذا لا ننتبه  إلى إعجاز الله - سبحانه وتعالى - حين  يُدير دفّة عقولنا وأرواحنا وأنفسنا إدارة حكيمة مبهرة معجزة في كل آن وكل ثانية وكل وقت ... إنه - سبحانه - يضع أمام أعيننا سُبل الهداية والرشاد والاستقامة ...أليس ذلك إعجازا ؟  يبذرُ أمام أعيننا أسباب الرزق السخي الواسع الذي أمسك بمقاليده ... أليس ذلك بالمعجز ؟ يسخّر لنا - وسخر لنا قبل خلقنا - هذا الكون بما فيه مما نعلم ومما لانعلم من مخلوقاته وأسباب الحياة فيه أليس ذلك إعجازا ؟  ... يديرُ بنيتَنا الجسدية العجيبة إدارة أشد إثارة للعجب ... إدارة دقيقة حكيمة رحيمة دافعة للحياة مُنجية من الهلاك مُعينة على تحقيق غايتنا من خلقنا ومُعينة على إيصالنا إلى مستقرنا ومستودعنا الأخير ... ألا تكفينا هذه الإدارة دلالة على إعجازه ؟  
وحين ... حين نلجأ إليه ونحتمي بكنفه ... حين نستند برؤوسنا المرهقة وأرواحنا المجهدة على كتف  رحمته  ... حين نناجيه غاصّين بالدموع ...مُفتتين من العذاب ...مسحوقين من الألم ...حين نستغيثُ به ونستعديه على الظالم وظلمه ..على العدو وكيده ... على المرض ودبيبه ...على الدين والفقر ومذلته ...على الخائن وخداعه ... على الحاسد أو الساحر وشره ... حين نستعديه على أنفسنا الآمرة بالسوء ... على الشهوات وإرهاقها  ... على الفتنة وعدوانها ... على الشيطان وفحيحه ... على الدنيا وفتنتها وفتونها وإذلالها لنا غدوا ورواحا ...إقبالا وإدبارا ... ابتساما وتجهّما ... إسفارا وإظلاما ... حين نستعديه على غامض الطريق ... ومغيّب الأمر ...حين نستعديه على الحيرة والعذاب والضلال والمراوحة في الأمر ...على البصيرة المتخبّطة ...على الصديق المُداهن... على ... على ... على ....
حين نلجأ إليه ونتوكلُ عليه ونسعين ونستعيذ به ونخضع ونذلُّ له ... لا يتخلّى - سبحانه - ... لا يعاتب ...لا يُعرض ... لايذكرنا بسالف إعراضنا عنه  ونسياننا له وانشغالنا بالفتنة التي أبعدتنا عنه ثم تولّت وأذلّت جباهنا وأعادتنا إليه موجوعي القلب والروح مهشمي الأماني والأواني والمُنا ... لا يتشفى ...لا يعاقب على صفيق غفلتنا وقبيح سهونا وجحودنا المتكرر ...المتكررر تكرار  الليل والنهار ... بل يحنو ويعطف ويرحم ويدنو أقرب من الوريد ... ويلبي حانيا ويغيثنا عزيزا جبارا قادرا ... ويُعيذُ حكيما مُداويا شافيا مشفيا وهو خير حافظا وهو أرحمُ الراحمين ... أليس ذلك كله إعجازٌ مبهرٌ دالٌ عليه ومثبتٌ لوجوده وموصلٌ إليه سبحانه ؟ 




*** إن في  سورة " الضُّحى " آياتٌ يشيرُ فيها المولى - سبحانه - إلى بعض  هذا الإعجاز البيّن الخفي ...نعم إعجازٌ بيِّنٌ لمنْ أُوتي البصيرة المُحبّة لله المشغولة بالوصول إليه ... وهو - في الوقت ذاته - إعجازٌ خفي لمنْ تكلّست وتحجرت بصيرته وفقدت بوصلتها حاسة التعرف على الاتجاه الموصل إلى الله ...
يقول اللهُ - عزّ وجل - مخاطبا رسوله الكريم : 
" أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوى ووَجَدَكَ ضّالاًّ فَهَدَى وَوجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنَى "الآيات 6 ، 7 ، 8 
إن هذه الآياتُ الكريمة التي يخاطب فيها المولى رسوله الكريم ترصدُ نعم الله سبحانه علينا - نحنُ  عباده- وتصف اللون الآخر من معجزاته فينا ...اللون الذي تنتبه إليه البصيرة المُحبّة لله المهمومة بالوصول إليه ...  هذه المُعجزات التي أشار إليها سبحانه في الآيات السابقة مُعجزات تخصّ الروح والنفس ... معجزاتٌ معنوية عبارة عن تحولات داخلية فائقة في بنيتنا الروحية والنفسية ... ، وهي : 
- الإيواء والاحتواء الحاني والإغاثة من فقدان المُعين ... 
- الهداية والرشاد بعد الضلال ... أي تفعيل البصيرة وتنشيط الفطرة المستقيمة ... 
- الستر والإغناء والإعفاف ... 

***-   منْ منّا لم يُؤه ربّه ويغنه عن الأهل ويكن له الخليفة في الأهل - ونعم الخليفة - ...؟ 
منْ منّا لم يهده ربّه سبلَ الرشادِ ويلقي أمامه سببا - أو أسبابا - كافية لتحول طريقه من الغواية إلى الاستقامة ومن الضلال إلى الهُدى ... سواء أتت هذه الأسبابُ في صورة رحمة ونعمة أو في صورة ابتلاء وكربٍ وهمّ تكشّف في النهاية عن حكمة إلهية جليلة ورحمة عظيمة أرادت لنا الخير بما يبدو في ظاهره الشر  

    - ... منْ منّا لم تنحنِ به حياته مرةً أو مراتٍ في طريق غير الذي خطط له فضجر وصخبَ وشكى و بكى ،  ثم أدرك بعد ذلك أن الله سبحانه إنما يمّم وجهه شطره وأنّه أراد أن يلفت رأسه ناحيته وأنه - سبحانه - ولاّه قبلةً يرضاها حين يهتدي قلبُه وتعود إليه فطرتُه الذكيّة ... 


- ... منْ منّا لم ييسّر له ربُه أسباب رزق جديد وباب إغناء واستغناء كفيل وكاف أن يغنيه بعد افتقار وأن يكفيه بعدَ عوزٍ وأن يريح باله بعد طول خوفٍ وبعد مذلة العِيلة ...؟ منْ منّا لم يصادف أبوابا جديدة للعمل وللكسب - مهما تواضع ظاهرها - ومنْ منا لم يضع اللهُ في طريقه إنسانا يأخذ بيده إلى شارع جديد للرزق والعفة والكسب الحلال ... ؟ 


*** فلماذا لا ننتبه إلى هذا الوجه الكريم اللطيف من معجزات الله فينا ؟ لماذا تخملُ بصيرتنا في تلمس واستشعار هذه اللطائف بينما نصخب في إحساسنا بالوجه المادي لقدرة الله ومعجزاته ... الله هو صاحب وجهي الإعجاز ... الله وحده هو القادرُ وهو المُغير والمُنعم والعزيزُ الرحيم ... اللهُ وحده الواحدُ الأحدُ الفردُ الصمدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... هو الله الذي نراه في أرواحنا ونفوسنا وفطرتنا وعقولنا وبنيتنا ... هو اللهُ .... هذا حقُّ ولكننا نحتاج إلى تنشيط التدبّر والتأمّل في أنفسنا وفي الكون وفي السماء كيف رُفعت وفي الأرض كيف سُطحت وفي اللإبل كيف خُلقت وفي الجبال كيف نُصبت ... وفي خلق السماوات والأرض وفي أنفسنا ... نحتاج إلى تأمّل خوافي ولطائف قدرة الله لنكون من المُخبتين ...من المتدبّرين قياما وقعودا وعلى جنوبهم حتى يكون إيماننا حيّا دائما وحتى يكون اليقين قائدا للروح وخلاصا لها من العالم الحجري الفظّ الغليظ ...الذي يقدّم نفسه لها - للروح - تقديما إغوائيا كاذبا فاتنا يجرها إلى التهلكة ويفقدها لذة الوصول إلى الكامل الجميل سبحانه ... 



                   *****************    


                   بقلم : د. كاميليا عبد الفتاح 







تعليقات